من أجل عطرك أنا مستعد للخيانة.. من أجل هذه الرائحة التي حركت براكيني الآسنة..سأقاسمك فنجاني وأهديك ولاّعتي، ولأنني لا أقدر علي مقاومة رائحتك سأسلمك شراعي لتبحري بي إلي جغرافيتك. أنا تاريخ الالتزام، أعرف النهار فقط، ويوم بحثت عن الليل جذبتني قارورة عطر أحمر فأفنيت زمني عابرا إليها بعدما تخلصت من أقنعتي المطاطية، هشمتها يوم قادني أنفي إلي رائحة لا يخطئها القلب، لم أكن لأخجل أو أرتبك، لملمت دهشتي، تأنقت جيدا، حرصت أن أضع عطري المفضل،تحملت باقة ورد برية، أطلقت العنان لقدمي لتقوداني إلي ليل اكتشفته في لحظة بحث، لأروي خياشمي بتلك الرائحة التي جعلتني أكبر، وأقدم قرابيني لفينوس الجديدة. وصلت إليها، وفي رأسي مساحة فراغ آن لها أن تمتلئ، قدمت لها ورودي وقلبي، تركتها تقرر إن كانت ستسعد بسفري إلي رائحتها. هي الباحثة عن أنف بلوري يقدر عطرها ويقدسه. ولم يكن أنفي بلوريا، بل كان حساسا يعرف متي يضع المتاريس لروائح قد تتعسه. تعرفتْ علي الحكاية واستعدادي للخيانة. ولأن الرغبة في امتلاك الأنف الحساس داهمتها، فتحتْ أشرعتها لي وقادتني إلي تاريخها لأدون فيه بعضا من فراغي. وأنا أعبر إلي رائحتها أوقن أن طريق العودة لم يعد ممكنا، وحدها بقية الطريق إليها معبدة بالنزوات. أنا العابر بأنف لا تخطئ الروائح، هي واقفة في نهاية الطريق تنتظرني لتقودني إلي جزرها العذراء. نزوتي تكبر، وأنفي تباركني، لأتوغل أكثر في ما تبقي من الخطوات التي تفصلني عنها. أصل إليها، تتأملني، أرنبة أنفي تفتح مسامها لرائحتها، رموشها ترقص فرحا بوصولي سالما، عيناي تتطلع إلي الضوء المنبعث منها، شفتاها تمطران نبيذا معتقا، أذني تلتقط موسيقاها، قلوبنا تعزف لحنا دائريا..تمتد يدي، تمتد يدها، تتشابك الأصابع، رائحتها تثملني، تغمض عينيها، أقترب أكثر، نتوغل فيما تبقي من الفراغ، أنفي تلتقي بأنفها، شفاهنا تتوحد، ترسم رائحة ممتدة. والروائح تتهاطل، تصنع رقصتها، أتابع أسواري المهترئة تتساقط، بينما حقولها تتفتح للحياة، تنمو في رأسي رائحة وحيدة هي رائحة عطرها المتجذرة في عروقي. قررنا معا أن يصبح عطرها عطري، وأن الخيانة التي نقترفها هي مجرد خيال، نصنعه لنوهم أنفسنا أننا ملائكة وديعة تدب في الأرض. تواطأنا، تركنا الروائح تصنع أقدارنا، انتشرنا في الحياة، هي تمشي، وأنفي الحساسة تتعقب آثارها، تحيد عن الروائح المزيفة، وتستنفر متاريسه لتمنع أية رائحة دخيلة قد تزعجه. هي حرصت أن تسلب إرادة أنفي، كبلتها، خبأتها في صندوق، وفي لحظة شاردة ضيعتُ خلاصي. في تلك الليلة البيضاء التي قضيناها، ونحن نسافر إلي جزرنا غير العذراء، أمطرت السماء ماء غزيرا اختلط بمياهنا الصافية، كانت حدائقنا عارية تماما، أحسست بأسنانها تصطك، هي السائلة عن سر الصمت، أرنبة أنفي اشتدت حمرتها، وأنفها البلورية تلمع. أوقدتُ نار المدفأة، وظلتْ تشيخ، التجاعيد تنتشر في عنقها ويديها وجبهتها، دمي المسكون بعطرها يجري، يعوي، يتساءل. والصمت يطبق علي المدفأة والحدائق، تركتها تكبر بمهل. وهي تكبر أمام المدفأة، يدها المرتعشة تحمل مفتاح خلاصي، والليل الذي قادني إلي رائحتها يوشك أن ينتهي، منحتني خلاصها وخلاصي لأكمل المسير دونها، تهت في طريق العودة لأن أنفي كرة كل الروائح، زجاجة عطرها فارغة، وداخلي فارغ، أجمع صورا مهشمة، أحاول أن أحتفظ بذكري جمعتني بها، لا أجد سوي الفراغ، أوهم نفسي أن ما عشته لم يكن حقيقة، لكن أنفي الحساسة أفرطت في السؤال عن رائحة تشبه مطر أيلول، قدمت له عطورا بديلة، رفضها، قدمت له بقايا الرائحة المنتشرة في ذكرياتنا، بكاها، رجوته أن يحتفي بالحياة، وأن ما عشناه لم يكن سوي نزوة، فتوشح بالسواد، واختفي..