في الخمسينيات من القرن الماضي، كان فن الكاريكاتير في أوج ذروته، وكان له تاريخ عريق يمتد إلي ماقبل بدايات القرن العشرين، وكانت كل الصحف والمجلات-تقريبا- تعمل علي تطويره والبحث عن فنانين مجددين في مجاله،وكان هذا الفن يخيف وزراء ومسئولين وحكاما وأباطرة وطغاة،ولا ننسي صحيفة البلاغ "الوفدية"، في منتصف عشرينيات القرن الماضي، التي كانت تتميز باستخدام الكاريكاتير ليكون كرباجا يشوي ظهور السادة والقادة كان علي رأس هؤلاء محمد محمود باشا، وأحمد لطفي السيد، اللذان كانا ينتميان إلي حزب الأحرار الدستوريين الخصم السياسي اللدود لحزب الوفد، وجاءت مجلة روز اليوسف التي أنشأتها السيدة فاطمة اليوسف، وكان معها الكاتب الصحفي الشاب محمد التابعي، وكان الكاريكاتير العمود الفقري للمجلة، فالتابعي كان يكتب الكاريكاتير، وصاروخان يرسم الكاريكاتير، والدكتور سعيد عبده كان يكتب أزجالا كاريكاتيرية، ومصطفي أمين يصوغ الخبر في سطور كاريكاتير ، وكانت المجلات تضع الكاريكاتير علي الغلاف، وعندما ترك التابعي مجلة روز اليوسف ليؤسس مجلة آخر ساعة، كانت ضربته الكبري أنه "خطف" رسام الكاريكاتير رخا، ولكن فاطمة اليوسف استطاعت أن تبحث عن بدائل منافسة، ولا أريد أن أكتب تاريخا لفن الكاريكاتير في مصر، فذلك قد فعله كثيرون، ولكن لا بد من إعطاء لمحة حول المناخ الذي جاء فيه الفنان الراحل الكبير مصطفي حسين كفنان، وسط عمالقة كبار استطاعوا أن يوسعّوا من فن الكاريكاتير، وألا يقتصر علي انتزاع البسمة من متلقيه، بل ليصبح شكلا من أشكال المقاومة المبهجة والممتعة بين كتابات وتحليلات وتحقيقات صحفية وأخبار، وكان الكاريكاتير قادرا علي اختصار كل ذلك في ضربة واحدة، ورغم أن المرحلة الأولي التي التحق فيها الشاب مصطفي حسين بدار الهلال في السنوات الأولي من عقد الخمسينيات، وكان يتدرب فيها علي كافة أنواع الرسومات، وشارك في رسم بعض أغلفة المطبوعات مثل مجلة "الاثنين والدنيا"، ولكنه لم يمارس فن الكاريكاتيرفي تلك المرحلة، وظل أربع سنوات يبحث عن نفسه حتي التحق بجريدة المساء، والتي صدر عددها الأول في 6 أكتوبر عام 1956، برئاسة خالد محيي الدين عضو مجلس قيادة ثورة يوليو، وضمت الجريدة كافة كتّاب اليسار المصري مثل محمد عودة وعبدالعظيم أنيس ونبيل زكي وعايدة ثابت وفيليب جلاب وغيرهم، وكانت تنشر مواد لقيادات اليسار الراديكالي مثل شهدي عطية الشافعي الذي نشر روايته الوحيدة "حارة أم الحسيني"، وكان من رسامي الكاريكاتير في الصحيفة بهجت وإيهاب وحاكم وسعد وغيرهم، وكان هؤلاء يشكلون كتيبة قوية استطاعت أن تنافس "جيش" رسامي الكاريكاتير الذي تمترس في مجلة صباح الخير، التي صدرت في أول العام نفسه، وكان يضم صلاح جاهين وحجازي والليثي وآخرين، وظل مصطفي حسين يعمل وسط هؤلاء "الأساتذة" حاكم وبهجت وإيهاب وسعد، ويتعلم منهم، وكانت هذه المرحلة، مرحلة شديدة الحساسية في تاريخ مصر، فكانت مصر تتعرض للعدوان الثلاثي الشهير بقيادة فرنسا وانجلترا واسرائيل، وكان كل شئ في الصحافة مجندا لخدمة هذه المعركة المصيرية، وكان الكاريكاتير سلاحا ماضيا لتوصيل الشحنات الوطنية المكثفة للشعب، وكانت رسومات الفنانين تعمل كمسدس سريع الطلقات، إلي جانب كافة المواد الصحافية الأخري، وكان مصطفي حسين مازال يعمل في البورتريهات والرسومات المصاحبة للمادة الصحافية، ونشرت أول رسمة بتوقيعه بشكل حصري في 13 نوفمبر 1956، وكان مازال طالبا لم يتخرج في كلية الفنون الجميلة، وربما يكون قد نشر رسومات أخري بدون توقيعه، ولكن هذه اللوحة التي صاحبت قصة "ثلاثة مقاتلين"، للكاتب الصيني ليو باي بو، وكان قد ترجمها الكاتب أنور المشري، ونشرت تحت باب "أدب المعركة"، وكانت اللوحة تصوّر جنديا يحمل بندقية، ويسهر علي حماية أناس من مواطنيه، وتعلن اللوحة عن ميلاد فنان شاب يقدر علي تطويع اللونين الأبيض والأسود بكفاءة، ويركز علي إظهار الأبعاد النفسية العميقة التي تنتاب الطرفين اللذين تدور حولهما الأحداث، الجيش والشعب، وقد أصبح مصيرهما واحدا أمام الأعداء، وكانت القصة تحاول تقريب الصورة بين المقاتلين وبين الشعب، إذ لا فرق بين حياة هؤلاء وهؤلاء، فالبيت بمثابة المكان الآخر للمعركة، وكانت القصة وفي معيتها اللوحة، من المساهمات العادية التي كان يشارك بها الكتّاب والمترجمون والرسامون، دون الاستسهال، ودون تقديم مادة صحافية سريعة وركيكة، لذلك كان مصطفي حسين يعمل في مرحلة حاسمة، ويدرك أنه يعمل بين فنانين كبار، ويدرك كذلك أن مدرسة "روز اليوسف وصباح الخير " كانت متسيدة مناخ فن الكاريكاتير، ولكن في ظل هذا الظرف الحربي كان الجميع يقدم المادة الفنية دون منافسات ذاتية، واختص مصطفي حسين بالرسومات التي تصاحب الأعمال الفنية، وتعبر عنها، فبعد قصة الكاتب الصيني، جاءت لوحته المذهلة عن كفاح المرأة في بورسعيد، وكتبت الصحيفة كلمة تقديم تقول فيها :"لقد برهنت بور سعيد علي أحقيتها في أن تدون التاريخ ضمن المدن الخالدة التي كافحت الغزو الأجنبي بجوار ستالينجراد وسباستبول، وهذه لوحة من كفاح بور سعيد الباسل ضد الغزاة المستعمرين، تسجل اشتراك المرأة بجوار الرجل في كفاحهم المشترك من أجل الحياة... للفنان مصطفي حسين"،وكانت اللوحة مرسومة بلون واحد، هو لون الدم الأحمر،وفيها تمسك امرأة بندقية جنبا إلي جنب مع الرجال، وتبرز حالتي عناد وإصرار يهيمنان علي اللوحة، وأعتقد أن هذا التقديم الفخيم للفنان الشاب الذي يبلغ من العمر واحدا وعشرين عاما، وكان مازال طالبا، أعطي مساحة واسعة فيما بعد للمشاركة باطراد في رسومات الصحيفة، فبدأت لوحاته تصاحب النصوص الشعبية والقصصية الجميلة والراقية في وقت واحد، فجاءت لوحته الثالثة مصاحبة لموال مصري شعبي قديم في 7 ديسمبر 1956، وتصور اللوحة وجها مصريا أصيلا، يحمل غصنا من الزيتون، وحمامة، وفي وجهه إصرار وقوة، وكانت هذه هي السمات التي يعبر عنها الخطاب الثقافي والفني في ذلك الوقت، واستطاع مصطفي حسين أن يعبر في رسوماته عن هذا الخطاب بجدارة، ففي الرسومات التي نشرت فيما بعد مصاحبة لقصص أو أشعار مؤلفة أو مترجمة، كانت الرسومات تعمل بشكل فني وجدلي علي ترجمة الروح النابضة في روح النص، وبدأت ملامح الفنان تتضح وتبرز وتأخذ طريقها للتميز والخصوصية، عبر خطوط خاصة ومختلفة إلي حد كبير، إذ كان هناك فنان آخر يعمل علي هذه التقنيات في ذات الصحيفة، وهو الفنان الكبير "تاج"، وكان تاج أحد الفنانين المتميزين تماما، وتستطيع أن تدرك لوحته دون توقيعه، وأعتقد أن مصطفي حسين قد استفاد من صحبة هذا الفنان كثيرا، ولكنه الدرس الحقيقي الذي علمه تاج لمصطفي هو التميز والخصوصية والتفرد، إذ كانت خطوط تاج كثيفة وعنيفة وحاضرة بغزارتها، جاءت خطوط مصطفي حسين رقيقة وخفيفة وليست كثيفة، بعدها شارك في تحضير معرض فني كبير، ونشرت الصحيفة في 15 ديسمبر من العام ذاته، أي في عز احتدام المعارك لوحتين تحت شعار "لن تعودوا"، وكتبت تحتهما :"الفنانون المصريون في طليعة المعركة..إنهم يسجلون بريشتهم ومواهبهم وجهودهم الأيام المجيدة التي عاشتها مصر في كفاحها ضد قوي العدوان..لقد سهروا ليالي متوالية ليقدموا إنتاجهم الفني الممتاز إلي الشعب حيث يوجد الشعب في الشوارع والميادين العامة، فكان انتصارهم انتصارا آخر يضاف إلي سلسلة الانتصارات التي حازتها مصر..."، وقد شارك مصطفي حسين بلوحتين لتسجيل بطولات الشعب المصري في المقاومة، بجانب فنانين شباب، وكان انتماؤهم إلي مصر التي تقاوم هذا العدوان الغادر، والخاصية التي اكتسبها مصطفي حسين طوال حياته أنه لم ينتم إلي أي فصيل سياسي حاد الملامح، وظلت ريشته تعمل في مناخات سياسية مختلفة، وتحمل قناعاته الفنية والفكرية بشكل خاص، وبعد هذا الاستعراض الفني الشعبي اكتسب مصطفي حسين ثقة كبيرة في ريشته، وراحت ريشته تشارك في كافة الموضوعات الصحافية المختلفة، ولم تصبح مقصورة علي الأعمال الأدبية، لكن عندما تكون هناك نصوص أدبية مميزة تستدعي ريشة مصطفي حسين، مثل هذه اللوحة التي صاحبت قصيدة للشاعر والكاتب الجزائري محمد ديب، وكان قد نقلها من الفرنسية الكاتب الصحفي آنذاك- أنور عبد الملك، قبل أن يسافر إلي باريس وينخرط في علم الاجتماع، ويصير مفكرا كبيرا علي مستوي العالم، وهكذا كان مصطفي حسين يخالط المثقفين والكتاب المصريين الكبار، وعلي وجه الخصوص كان منخرطا في جماعات اليسار المصري، رغم أنه كما أسلفنا لم ينتم إلي تنظيماتهم وأحزابهم، ولكنه ظل يعبر عن القضايا الحاسمة بضمير مستيقظ وسليم،وكان كذلك يرسم بورتريهات للموضوعات التي كان يكتبها نعمان عاشور عن عبدالله النديم ورفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني، وظل طوال عامي 1956و1957يرسم لوحات وبورتريهات ورسومات قبل أن يرسم الكاريكاتير، ولكن وجوده وسط بيئة معظمها من رسامي الكاريكاتير لأهمية هذا الفن، وكانت روحه تميل إلي هذا الفن كذلك، وجد نفسه ينخرط في هذا الفن، ونشر أولي رسوماته الكاريكاتورية في 8 مارس 1957، علي ثلث صفحة كاملة، ووصلت الرسومات إلي خمس، مع قصة طريفة للسندباد تتكون من خمس مقاطع، والرسوم تتقاطع مع القص، وتتطور التقنيات عند مصطفي حسين، وتبرز الثقة في الاسترسال، ويبدو أنه أتقن تجسيد المعاني النبيلة عبر خطوطه التي ترسم الحمامة علي هيئة الشعوب الحرة مرة، وفي كل ذلك نجد السندباد يدير حوارا مع مفردات الرحلة، ويبدو أن مؤلف القصة هو مصطفي حسين نفسه، لأن الرسومات نشرت تحت عنوان "قصة سياسية"، وتحتها كتب :"بريشة مصطفي حسين"، وتكررت هذه الرسومات،وأصبح اسم مصطفي حسين موجودا بقوة في الصحيفة، وأصبح مشاركا في المشاركة اليومية، مثله مثل أساتذته الذين التحق بهم، وعمل بينهم، بل في 15 مارس 1957، نشر مربعا كاريكاتوريا شارك فيه بهجت عثمان الشهير فيما بعد ب "بهاجيجو"، مع حسن حاكم، والواضح أن نصف المربع كان مخصصا لمصطفي حسين، والنصف الآخر لبهجت وحاكم، وهذا لا يعني أي نوع من التفضيل، ولكنه يعني أن مصطفي حسين قد أصبح في عداد الفنانين الكبار، وكانت الرسومات الثلاث، تسخر من مشروع ايزنهاور الاستعماري في ذلك الوقت، وكان هذا المشروع هو الشغل الشاغل آنذاك للسياسة والصحافة المصرية، وتكررت هذه المشاركة بين بهجت ومصطفي في عيدالأم، وبدأت رسومات مصطفي حسين تتنوع في اتخاذها درجات من المعاني المختلفة والمتعددة، ولكنها كانت دوما تنحو نحو الغمز واللمز السياسي الموحي والذكي، كبديل عن التصريح السياسي الفج الذي يفسد روح الفن، وفي 29 مارس انفرد بقصة سياسية كتبها الأديب عبد التواب يوسف، وصاحبت القصة عدة رسومات أكثر من رائعة، وجاء في مقدمة القصة :"إن البحر كان عاصفا..ثائر الأمواج، صاخب التيار، أشبه بالجو في الشرق الأوسط في الأسابيع الأخيرة.."، ولم يكن مصطفي حسين مجرد مترجم للمعاني التي وردت بالقصة، ولكنه كان يقول رأيا بخطوطه التي تستقيم وتتعرج وتتكور وتنفرد حسب الفكرة التي يريد إيرادها الفنان الشاب، وهكذا وهكذا بدأت خطوات مصطفي حسين تتقدم، حتي اعتبرته الجريدة من فنانيها الأساسيين، فراح يلاحق الأحداث السياسية المصرية والعربية والعالمية بشكل يفوق رفاقه وأساتذته في الجريدة، وفي 1 أكتوبر 1958نشرت له الجريدة أول رسمة علي الصفحة الأولي، وهذا تقدم كبير لفنان لم يمكث أكثر من عامين في الجريدة، وأصبح أحد الفنانين الذين يصوغون السياسة الكاريكاتورية في صحيفة المساء التي وصل توزيعها إلي أعداد خرافية في ذلك الوقت، وأصبح كذلك أحد الأعمدة المصرية الكبيرة في مدرسة الكاريكاتير المصرية، وأصبحت له خصوصيته الفريدة بين عمالقة ذلك الزمان، وظل في صحيفة المساء التي بدأت يسارية النشأة والتوجه والطابع، حتي تبدلت الظروف والتوجهات فانتقل إلي صحيفة الأخبار عام 1963، بعد أن استقر فنانا كبيرا في وجدان المصريين جميعا.