تقدم لنا رواية الكاتب العراقي "خضير ميري" الثالثة "الذبابة علي الوردة" والصادرة عن دار الحضارة للنشر 2009، بعد "أيام الجنون والعسل ..الحرب علي مستشفي المجانين" 2006، و"جن وجنون وجريمة" 2007، بالإضافة إلي مجموعات قصصية ثلاث، وثمانية كتب تعالج قضايا فلسفية، تقدم لنا تجربة مثيرة متفردة، تمنح من عمله بالصحافة، وتعرضه للتوفيق غير مرة، ومكوثه ردحًا من الزمان نزيلاً بمستشفيات الأمراض النفسية والعقلية والإدمان، فعاش متعالقًا مع الجنون والألم والقلق واللايقين من شيء، عاجزًا عن امتلاك اللحظة الراهنة، بفضل علاقات السيطرة وتقنيات الإكراه التي تستخدمها السلطة الغشوم في صياغة الفرد وصناعة هويته...الأمر الذي يفتح الوعي علي ماهية عالمنا اللامعقول، وما يضج به من كابوسيه وقتل ممنهج واغتيال معنوي وتدجين للإنسان، أو بتعبير بطله في روايته هذه الذي يشبه "مالون" في رواية "صمويل بيكت" "اللامسمي" وهو يجيب عن الأسئلة: أين، ومتي، ومنْ؟: (كيف استطعت أن تنجح بالإفلات من عقوبة الإعدام؟ الرهيب، وكيف تسني لك أن تمثل الجنون لست سنوات كاملة؟ وكيف قاومت التعذيب الرهيب؟، وكيف لم يكتشفوا أمرك طوال هذه السنوات؟ وعندما أصبحت نزيلاً إجباريًا في مصحة "الرشاد" للأمراض النفسية والعقلية، كيف تسني لك خداع اللجنة العدلية التحقيقية؟ وكيف تعاملت مع مجانين حقيقيين قياسًا، بك أنت المجنون الزائف؟ ثم كيف تمكنت من الهروب بعد ذلك؟ ...إلخ). إذن.. ما الذي يُحيل إليه اسم "الذبابة علي الوردة"، وما الذي يكتنزه من حمولات دلالية متحركة؟
نقرأ في فقرة (من مدونات مجنون سياسي) جاءت بمثابة توطئة للرواية ولأفقها: "جلست علياء في ظهيرة قارصة، كان الشتاء فيها يشفق علي الناس فيتأفف بردًا ومطرًا، وقالت في سرها: ما معني الذبابة علي الوردة؟، وعندما نظر إليها زوجها الكبير السن المخرج التليفزيوني السابق وهو يرتعد بردًا قال في سره: لعلها صدقت بهذا الهراء، وكأن أخاها لم يكن مجنونًا". وهنا نُمسي حيال صورة تتسم بالغرابة واللا ألفة، وتدفعنا إلي مساءلتها وتعيين أبعادها؛ فيحولها الكاتب إلي علامات تحرير الكلمات والدلالات من كل ذاكرة قديمة أو أصل مفترض؛ إذ الصور نوافذ تومئ إلي الضمني والمضمر .. وهذه هي شعرية "خضير ميري"، التي تمثل حركة اللغة صوب كل ما يستأصل ويُؤصل كشكل من أشكال ترسيخ الانفصال وتأكيد الغيرية المطلة..ألم يقل لنا "بورخس": "من الممكن ألا يكون التاريخ العالمي ليس سوي تاريخ لبعض الاستعارات؟"..."غير أن "علياء" أخذت تقلب صفحات قليلة بتؤدة مصدق متأمل.. وقرأت قليلاً ما يلي: حتي لو لم أكن مجنوًا، فأنا لا أثق بهذا العقل ولن أنتسب إليه.. استيقظت الذبابة صباحًا فوجدت نفسها مشنقة، وعندما أغمضت عينيها تحولت ذات ثورة سياسية عجولة إلي حمار حاكم، يرعي ويرقص ويغني ويضرب علي الدف". وبذلك نجد أنفسنا إزاء قلب لصورة العالم، يكشف عن نفسه في اختلاله واعتلال بناء وتوظيفه بما يتناغم وأحلامه سدنته الأدني إلي شخصيته "د.رافائيل ليونيداس تروخيوو مولينا" بطل رواية "حفلة التيس" لماريو بارجاس يوسا، فأضحي الجنون وقد أدرك "فوكو" مثل "هوركهايمر" و"أدورنو" أن العقل الذي كان من المفترض أن يحررنا، أصبح الأداة الأساسية للسيطرة علينا، حتي أن اللامنطق غدا بديلاً لحكم العقل، فطال انفجار الجنون العشوائي كل شيء، وتكفلت الدولة الاستبدادية وأجهزتها البيروقراطية بتقويض كل فاعلية تاريخية للإنسان، وأنشأت سجونًا تقترب من نموذج المراقبة الكلية الذي صممه "جيرمي بنتام" تعبيرًا عن شططها في التحكم والسيطرة، لذلك استخدم "خضير ميري" تقنية الكابوس والجنون والسخرية، في إشارة إلي طبيعة الواقع المهترئ الذي نحيا جحيمه، وتجري فيه الأحداث المستحيلة بضرب من الجبرية من دون أن نعثر علي تفسير محدد لها، لذا أعمد السرد إلي التركيز علي وعي البطل اللامسمي؛ في محاولة لإزاحة النقاب عن طبيعة القوي الكامنة فيه، وما يساوره هو من ريبة وقلق وخوف وغموض وشك.
يستثير الروائي طريقة مختلفة في النظر إلي العالم المألوف، واختراق السطح الخارجي لنتبين ما يموج تحته ويهدر من قمع وفوضي قتل تطول أناسًا من طراز (ابن الثامنة عشر الذي دخل الجامعة توًا)، ولم تكن شخصيته (قادرة علي تحصين نفسها) لكنه (مدين للأحلام... للهذيانات والمسكرات .. مدين للكتب أنا اقرأ إذن أنا موجود)، فقد كان يفهم الجامعة (علي أنها مرحلة لتغير الاختلاط، قبل ذلك تم كسر ظهر الأحزاب السياسية بضربة سلطوية واحدة، أصبحت هاربًا لأنني ما أتصور لون الحياة أحمر). وفي يوم من الأيام، حضر إليه رجال الحزب الذين (يرتدون الزيتوني، وتبدو مسدساتهم ثقيلة ومهيأة ..مُدت لي ورقة بلسان مدجج بالسلاح والأوامر، وطلب مني أن أقرأها بعناية، كان ذلك في 1980، عندما قرأت العبارة التالية: في حالة عدم الالتزام بما جاء في تلك الورقة، ستكون العقوبة الإعدام)..كان والده (ينتظر ذهاب الغرباء ليمسك بياقة قميصي ويشبعني سبابًا، ثم يعود ليغالط نفسه قائلا: ولكن هذا ظلم..إن ولدي لم يفعل شيئًا، إنه فقط يقرأ ويفكر كثيرًا). وفي هذا المناخ الموبوء، تُرغم قوي التسلط والقمع المناضلين علي إعلان "التوبة الإيديولوجية" لكسرهم وعزلهم عن جماهيرهم، مما أدي إلي (قتل مواهب حقيقة في ثروات نفوس مؤمنة بما ذهبت للعمل من أجله)، وجعل من (الوجودية المهرب الرئيس من كل موضوعية محتملة) علي الرغم من اعترافه (بأن الكثير من أبناء مرحلتي ولا أقول جيلي، لم يكن يعي فهم الوجودية القادمة متأخرًا آنذاك، بقدر ما كانت تعني الوجودية سلوكًا غامضًا، تهويمات، وعبارات ركيكة لا عمل بها لأية حتمية أو أخلاقية أو التزام أخلاقي).
وتمضي الرواية لتصف لنا حلقات الجحيم التي أحكمت حصارها علي المواطنين والمثقفين العراقيين الذين عاينوا الاغتراب والتدمير المبرمج، بعد أن صار الوطن منفي ومدينة أشباح، وموئلاً لصناعة الامتثال والإذعان واقتلاع التمرد ..فإذا بناء إزاء عالم كافكاوي يذكرنا ب"جريجور سامسا" الذي استبدل مشيته الذكورية منتصبًا، بمشية أفقية يزحف بها علي الأرض، مثل السجين المستذل "في مستعمرة العقاب" الذي كان يسير علي أربع، و"جوزيف ك"، الذي رقد أيضًا ليتم إعدامه ككلب، ولم يكن يعرف أصلاً سبب القبض عليه...وعلي هذا النحو، قتل "كاظم" الرسام الموهوب نتيجة (استخدام سيء للبندقية التي كانت بحوزته، بعد أن تم استدعاؤه إلي الحياة العسكرية الإجبارية التي هي أشد أنواع الحياة تهتكًا وقسوة ولا أخلاقية في ظل الشعارات القومية والبطولات العربية المزعومة)، ولم يعد للاتهام معني (عندما يصبح الاتهام بكل أنواعه نوعًا من الخيانة العظمي، خيانة لمن؟ وعظمي وفقًا لأية عدالة؟ صرتُ محبوسًا، ومعتقلاً، دون أدني فكرة عن مسئوليتي إزاء أفعالي..)(كنتُ ثاني اثنين أنا ورفيقي وصديق عمري "بلا اسم" الذي لا يستطيع أن يتكلم معي بحرية، قال بهمس: نحن بالأمن العام، كان ذلك فخًا..حاول أن تصمد يا صديقي) سأله المقدم "قاسم" عن كتبه الكثيرة المضبوطة لديه، طالبًا من الاعتراف والإقرار، لأن (كل شيء مثبت ضدي، ولا مهرب عندي من الهروب الذي اعترفت القيام به) وكتابة ورقة عن أسباب اللجوء إلي (المنظمة السياسية لتهريبك خارج العراق) ولم تكفهم اضطلاعه ذات يوم بتوقيع ورقة سقوطه السياسي، دون أن يملأ كل بنودها بالطبع.. وعندما رفض الانصياع لمطلبه، شدَّ المقدم أذنه بقوة وقال: إذن لا بد من تقديم عزومة لك علي حفلة فاخرة من حفلاتنا الرائعة) أي وجبة ساخنة من التعذيب والتنكيل الوحشيين..لكن هذا السجين يدرك أن الملهاة لعب يقلد الحياة؛ لذا انتابه الضحك من مشهد (ذبابة مصرة علي ركوب نظارتيّ القاضي والتمادي في مسح الغبار عنها ..وعندما بادر إلي هشها من علي أرنبة أنفه ..أسقط نظارته دون علم منه. وحينها صرخ القاضي كما لو كان طفلاً يُصفع من قِبل ذويه: ألم أقل لك، أخرجوا هذا المجنون من هنا. وكنت أنا أضحك بدوري بالرغم من شدة الصفعات والركلات التي حصلت عليها، وأنا أشعر بالرثاء لما وصلنا إليه في زمن الفوارس والقوارص والبطولات الأصلية التي تجمع هذه الأيادي كلها علي شخص نحيف، شبه أعمي، مقيد من الخلف لا حول له ولا قوة.. ولم تسدل الستارة بعد: فالمهزلة غالبًا ما تكون أطول من المأساة لأنها بحاجة إلي جمهور كبير لمشاهدتها). لكن سرعان ما جري إحضاره إلي غرفة التحقيق، ليسأله القاضي: هل أنت مريض نفسيًّا؟ فأجبت : كلا، لو كنت مريضًا لما رغبت بأن أصبح فيلسوفًا؟، مَنْ هو الفيلسوف ...هل هذه مهنة؟ فأجبته: كلا إنها أكثر الأعمال عطالة في العالم، فضحكوا جميعًا). بيد أن "الجلاد الجديد" لم يستطع تشغيل جهاز الكهرباء المنوط به تعذيب السجين (فعرضت عليه أن أساعده؛ فبهت لطلبي ...وأراد أن يجرب عمل الجهاز فأرشدته إلي كيفية ذلك. ووضعه علي يدي فصعقت وانتفض جسدي كله. ولكن..هذا مستحيل، لماذا فعلت ذلك؟) وعندما علم المقدم قاسم بذلك قال : صحيح هذا مخبل، بسن مخبل يفتهم) لكن القاضي "النكرة" (الجالس أمامي كان يشفط الدخان شفطًا، ثم قال لي: أنت مجنون وأنا مجنون، تري من منَّا سيقتل الآخر؟) لقد استطاع "خضير ميري" أن يحاكم الديكتاتورية وحكم الفرد، ويفضح خوائهما، ورعبهما من مثقف لا يملك إلا قوة كلماته، لكنه يملك يقينًا بانتصاره؛ لأنه للواقع متعدد الأصوات، فتمرد علي الموت، وناصر الحياة، وكشف بغية مثقف عاش (مصابًا بكآبة الموقف وإحباط الثورات ومرض الإيديولوجيات المغشوشة التي تخون أبنائها وتنزع أحشائها) وأن يحيا مفارقة زمنه غير أن لغة "خضير ميري" الشعرية استطاعت هتك الواقع واستيلاد زمن جديد ينبعث من رماد العنقاء؛ فأعادت إلي الحياة معناها، وإلي السرد فعاليته، متوكئًا علي جسارة السؤال، وأصالة التجربة.. فهل كان "خضير ميري" مجنونًا أطل علي العالم فأدرك ضعفه وهشاشته.. أو أنه كان رؤيويًا أبصر الجنون المحايث للوجود، فلاذ بالخيال، وطاف بالأزمة؟