هل كان التعايش بين الأديان في العصر الأندلسي حقيقة واقعة؟ بطبيعة الحال. يمكن أن نعتبر إسبانيا في حكم الخلافة، أي في القرن العاشر، نموذجا للتعايش بين الأديان واللغات والأعراق. كان هناك حتي انصهار عرقي بين البربر القادمين من شمال إفريقيا والإسبان. دخل الفاتحون المسلمون إلي إسبانيا بعدد قليل للغاية وبالطبع كان لابد لهم أن ينشئوا أسرا هنا. كان هناك الكثير من الزواج المشترك، من هناك نشأ ما يسمي بالشعب الأندلسي والانصهار بين الأعراق والأديان. في إسبانيا المسلمة كانت هناك أقلية مسيحية لكنها مستعربة. رغم أن هؤلاء احتفظوا بديانتهم المسيحية إلا أن الثقافة العربية كانت ذات تأثير كبير عليهم، في ملبسهم وفي شخصياتهم وطريقة حياتهم وتقريبا كانوا قد نسوا اللغة اللاتينية واستخدموا اللغة العربية. ما يدل علي ذلك أنه كان ثمة في طليطلة مائتا ألف وثيقة من وثائق المستعربين واليهود مكتوبة بالعربية. وثائق بيع وشراء وزواج وهبات إلي الأديرة... كل هذا كان مكتوبا بالعربية حتي بعد الاستيلاء علي طليطلة علي يد ألفونسو السادس عام 1085. واصل المستعربون استخدام العربية لمدة ثلاثة قرون بعد ذلك، حتي القرنين الرابع عشر والخامس عشر. يدل هذا علي درجة الانصهار بين الثقافتين تلك. إذا كان عدد المسلمين الذي وصل إلي إسبانيا قليلا فهل يمكن الحديث عن احتلال؟ لا، في الواقع كان انصهارا. لذلك فإن كلمات من قبيل غزو واحتلال لا تعكس الواقع التاريخي. بالطريقة نفسها فإن كلمة استعادة هي موضع شك كبير. إن كلمة استعادة تعني طرد الجيوش التي تقوم باحتلال بلد ما، لكن الأمر لم يكن هكذا. كان مسلمو إسبانيا إسبانيين تماما مثل مسيحييها في الشمال. وفي رأيك لماذا تم الاحتفاظ بهذا المصطلح هنا في إسبانيا؟ يرجع هذا إلي ما حدث بعد سقوط غرناطة. قبل ذلك كان هناك تعايش، حتي في المدن المأخوذة من قبل ملكي قشتالة وآراجون. كان ثمة تعايش وتسامح خلال قرون عدة. لكن بعد أخذ غرناطة بدأت الأمور تتغير وبدأ النبذ. بدأت محاولات تحويل المسلمين قسرا إلي المسيحية. منعوا من استخدام لغتهم وملبسهم وطريقتهم في العيش. اضطهاد للمسلمين ولليهود أيضا، حينذاك بدأت محاولات طمس دور المسلمين في إسبانيا. هل كان هناك اضطهاد لأديان أخري طيلة الحقبة الأندلسية؟ لا. كانت قرطبة نموذجا لهذا. في قرطبة كانت الأغلبية الساحقة من المسلمين، رغم بالاستناد إلي ما يبرهن عليه في النتاج المقروء. ولذلك تتصل مقدماته بنتائجه اتصال العلة بمعلولها من دون تعارض، بل في اتساق يؤكد قيمة المقروء والقارئ علي السواء«، وانتهي تقرير الدكتور مكي بشأن أعمال نصر أبوزيد »إن الإنتاج الذي تقدم به نصر أبو زيد يتميز بالغزارة والخصوبة، بالإضافة إلي تنوعه الواضح. إذ إنه يتناول مجالات الدراسات الإسلامية والبلاغة والنقد والنحو. وما يبقي من هذا الإنتاج، بعد استبعاد ما يدخل في باب النشاط الثقافي العام، وهو ثمانية أعمال، يكفي من ناحية العدد« ويمضي التقرير المنصف الرصين قائلا »أما من ناحية القيمة فإنها تمثل فكراً ناضجاً وقدرة علي التحليل العميق وسعة اطلاع والتزاماً بالمنهج العلمي الصارم، وإذا كنا قد اختلفنا معه في بعض وجهات نظره، أو أخذنا عليه بعض الحدة في معالجته للمشكلات، فإننا نري في هذا الإنتاج بشكل عام اتجاهاً عقلانياً مستنيراً، وإذا كان ينتقد جوانب من تراثنا القديم فإنه لا يبدي رأياً إلا بعد دراسة مستفيضة واعية وبعد اطلاع واسع علي هذا التراث. وهو في النهاية يربط بين التراث ومشكلات الحاضر التي يوليها جانباً كبيراً من اهتمامه، إذ إنه يسعي دائما إلي أن يتخذ من الجوانب المضيئة في ذلك التراث ما يعين علي إصلاح مسيرتنا الحاضرة، ويدفع بالأمة إلي الرقي والتقدم، بعد دراسة ناضجة واعية. ومن هنا، فإننا نري أن إنتاجه كاف، يؤهله للترقية إلي درجة أستاذ في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة« جاء هذا التقرير، الذي أيده وأيد النتيجة التي وصل إليها تقرير عوني عبد الرءوف، تقريرا علميا منهجيا رصينا، ناقش فيه مكي أعمال أبو زيد بهدوء وحيدة وموضوعية، مبديا اختلافه مع بعض النتائج التي توصل إليها في أبحاثه، مع إشارته لاحترامه لهذا الاختلاف وتقديره لجهد الباحث ومنهجيته. تقرير مكي كان تقريرا علميا من طراز رفيع في مواجهة تقرير عبد الصبور شاهين الذي كان »تقريرا تكفيريا يقوم علي محاكمة عقيدة الباحث والحكم علي نواياه التي لا يعرفها سوي خالقه« بحسب جابر عصفور. ورغم أن البعض كان يحسب المرحوم مكي علي التيار المحافظ داخل كلية الآداب والجامعة المصرية، وهو الذي تتلمذ علي يد طه حسين وعبد العزيز الأهواني، إلا أنه وطوال حياته ومسيرته العلمية حافظ علي استقلاليته الفكرية وموضوعيته العلمية وانحيازه للبحث المجرد والنتائج التي يتمخض عنها دون النظر إلي أي اعتبار آخر، ولعل موقفه في أزمة أبو زيد تؤكد هذه النزاهة العلمية والجسارة الفكرية والأخلاقية، خاصة في ظل تشابك خيوط هذه الأزمة وتعقدها وتعدد أطرافها من أساتذة لهم تأثيرهم في الرأي العام والطلاب علي السواء. وكانت لجنة القراءة التي تشكلت لفحص الإنتاج العلمي لنصر أبو زيد تتكون في البداية من شوقي ضيف ومحمود علي مكي وعوني عبد الرؤوف، إلا أن شوقي ضيف اعتذر عن الاستمرار في اللجنة، لأسباب وملابسات أوردها جابر عصفور تفصيلا في كتابه المشار إليه سابقا، ويردها إلي سياق تاريخي ممتد لأزمة محمد أحمد خلف الله ورسالته »الفن القصصي في القرآن الكريم« وحل محل ضيف في اللجنة عبد الصبور شاهين، الذي كان يحمل روحا ثأرية من نصر أبو زيد علي خلفية مهاجمة الأخير له وانتقاده العنيف لمواقفه من تيارات الإسلام السياسي وشركات توظيف الأموال. حدث ما حدث، وثارت الأزمة، وتحولت إلي قضية رأي عام، ولم يتغير موقف الدكتور محمود علي مكي من وجوب ترقية نصر أبو زيد واستحقاقه للأستاذية، وساند ودعم موقف قسم اللغة العربية المناصر لحق أبو زيد وتصديه لهجمة شاهين والتيار الذي يقف خلفه، وكما كتب مكي تقريره في أعمال أبو زيد، ساهم في صياغة التقرير الذي كتبه أعضاء مجلس قسم اللغة العربية في تقدير وتقييم أعمال أبو زيد ووقع عليه كبار أساتذة القسم، ولم يحد مكي عن موقفه المساند لحق نصر في الترقية واستحقاقه لها، وهو الذي أكده عصفور الذي روي عن مكي أنه كان يري ترقية نصر لأن إنتاجه يستحق، وإذا كانت هناك هفوة هنا أو هفوة هناك، فهي لا تقلل من قيمة الإنتاج العلمي علي الإطلاق، فما أكثر الذين تولت اللجنة ترقيتهم وهم أقل شأناً وقيمة..