أكتب بعد ساعات من إخراج جثة الشاب السكندري خالد سعيد بقرار من النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود لإعادة تشريح الجثة وتحديد سبب الوفاة بواسطة لجنة ثلاثية عليا من الطب الشرعي. ولن يعيد التقرير الجديد الشاب إلي الحياة التي لم يتذوقها بعد، لكنه قد يعيد إلينا بعض الأمان علي أبنائنا، وبعض الثقة في مستقبل لهذا البلد الذي يتحول إلي غابة ليس فيها خضرة الغابات. غابة توشك علي الاختناق عطشًا، لكنها مع ذلك تؤوي وحوشًا بعضها عديم الرحمة والبعض عديم الضمير. نحترم ما تعنيه مؤسسات الدولة، ونعرف ضرورتها، وبين هذه المؤسسات جهاز الشرطة، علي الرغم من التجاوزات التي تحدث كل يوم بسبب انتفاء المسافة بين الشخص والوظيفة، وهو أمر يمكن أن يحدث في كل بلاد الدنيا، ويتحول إلي قاعدة في ظل الأحكام العرفية وانسداد الطريق السياسي كما في مصر الآن. تعايشنا مع قوانين الغابة في حدود يمكن للضمير أن يحتملها مكرهًا، علي أمل تغييرها، ولكن عندما يصل التغول إلي حد القتل، تصبح الدولة كلها في خطر؛ تصير الغابة مهددة بالحريق. مابين الوجه المبتسم لمراهق وسيم وبين صورة الجثة المهشمة الأسنان مسافة من الرعب والأسي سيقطعها مراراً في أحلامه كل من رأي الصورتين. وأنا أكتب الآن قبل أن يصدر تقرير اللجنة العليا للتشريح. وإلي أن يصدر التقرير هناك روايتان للواقعة: واحدة رسمية مدعمة بتقرير من طبيب شرعي وكتابات صحفية وضع أصحابها أنفسهم جنوداً في خدمة هذه الرواية التي تقول بأن الشاب صاحب سوابق في المخدرات، وأن المخبرين فاجآه في مقهي النت فابتلع لفافة بانجو واختنق بها، وهناك رواية غير رسمية لدي الأسرة والشهود تؤكد أن رجلي الأمن ضرباه حتي الموت بسبب فيديو يريد أن يرفعه علي الإنترنت يدين ضباطًا في قسم الشرطة، وهي الرواية التي صدقها الرأي العام وحملها شباب من عمر خالد يعانون الولع نفسه، ولع الإعلام الجديد، وقد وصلت مجموعته علي الفيس بوك إلي مائة وخمسين ألفًا في يوم واحد، ومازالت. ولاأريد أن أستبق لجنة التشريح، علي الرغم من أن الورم والتهشيم بالوجه واللون الأزرق لا يمكن أن يسند ادعاء أنها آثار التشريح، إذ لا تزرق الشاة بعد ذبحها، وعندما تثبت اللجنة تهمة القتل لابد أن ينال الوحوش القتلة جزاءهم، هذه مسئولية الدولة، عندما يسرها ألا تكون غابة. وعلي درجة الأهمية نفسها لابد من محاسبة الطبيب الذي دعم رواية الشرطة والصحفيين والإعلاميين الذين تطوعوا بتلويث الضحية بادعاءات الإدمان والتهرب من الخدمة العسكرية وغير ذلك من تهم، ناسين أن كل ما ينقلونه كالببغاوات عن ضباط صغار لا يبرر القتل، وإلا ما فائدة المحاكم والسجون في جنبات الغابة؟! إن لم نكن جديرين ببناء دولة؛ فلنبن علي الأقل غابة. وحيوانات الغابة تغضب فتقتل وتجوع فتأكل، لكنها أبدًا لا تعرف نقيصة الشهادة الزور، وليس بينها من يخالف ضميره ليلبس مركوبًا بعد حفاء أو ليسكن قصرًا بعد تشرد أو ليلبس بعد الضني حرير في حرير. لابد من ملاحقة قضائية لهذه الكائنات الخطرة علي مستقبلنا، التي تعرقل فرص التغيير، وتلوث شرف مهنة الصحافة وتقوض الصحف وأجهزة الإعلام وتجعلها غير جديرة بالثقة.