دعا شامل أباظة مجموعة من أدباء الإسكندرية للعشاء في بيته بالإسكندرية، منهم: الشاعران الكبيران فؤاد طمان وصبري أبو علم والدكتور أيمن يوسف عز الدين عيسي وأخته فاتن. ورحبت زوجة شامل أباظة بضيوفها ومما قدمته إليهم العدس الأباظي الذي تشتهر به الأسرة الأباظية. وشامل أباظة هو الشقيق الأصغر للروائي الكبير ثروت أباظة، ووالدهما إبراهيم الدسوقي أباظة الأديب المعروف وصاحب الصالون الأدبي المشهور، والسياسي المرموق الذي كان يتمتع بحب كل الأحزاب المصرية تقريبا، فكل حزب ينال تشكيل الوزارة يختاره وزيرا معه، لدرجة أن الصحافة الساخرة، اطلقت عليه وقتها لقب: بنطلون الوزارة. وفي اللقاء سأل صبري أبو علم – زوجة شامل أباظة – وهي ابنة الزعيم والمناضل والشهيد محمود فهمي النقراشي – عن والدها، هل هو أصلا من حي بحري بالإسكندرية؟ فقالت: لا، هو من حي راغب باشا. وحي راغب باشا، هو الحي الذي مازلت أعيش فيه للآن. وكلنا هناك نعرف ونفخر بأن النقراشي من حينا، فبيته في شارع قريب جدا من الشارع الذي أسكنه. بيت صغير جميل مثل باقي بيوت زمان العريقة، متوسط الحجم، وبعيد عن العلو الشاهق الذي غزا شوارعنا مؤخرا، فهو من ثلاثة أدوار فقط. يقع بيت النقراشي في تقاطع شارعي اليعقوبي وأبوان. وسكن فيه مفصل قمصان وبيجامات اسمه عبده، واطلق علي دكانه اسم » فينوس» لكن أهالي المنطقة لم يستوعبوا معني الإسم، فأطلقوا عليه اسم »عبده فانوس» وصنع لي بيجامات وقمصان، وكان يجد صعوبة في قياس منطقة بطني لقصر يديه، فيطلب من أحد الموجودين أن يمسك معه طرف المتر الذي يقيس به. وينظر إلي المتر وهو يقيس طول قميصي مندهشا وقائلا لي: إنه طول جلبابي. عمل محمود فهمي النقراشي مدرسا في مدرسة رأس التين الثانوية، ثم أصبح عضوا في جماعة التضامن الأخوي - التي تغتال الإنجليز وأعوانهم- كان عضوا باللجنة التي يرأسها عبد الله حسن عوض - الموظف بجمارك الإسكندرية - وكان صديقا للحاج حبيب – صاحب فرن حبيب المشهور في حي بحري – يزوره ويجلسان معا خارج مخبزه. شفيق منصور المحامي كان مرشحا لمنصب مدير الأمن العام في وزارة سعد زغلول، لكن الإنجليز قبضوا عليه في قضية قتل السردار الإنجليزي – السير لي ستاك - التي تمت ظهر يوم الخميس 19 نوفمبر 1924. فضعف شفيق واعترف علي زملائه في جمعية التضامن الأخوي التي تغتال الإنجليز وأعوانهم. ومما رواه إن محمود فهمي النقراشي والدكتور أحمد ماهر كانا عضوين في الجماعة. وكان يدربهما علي استخدام الأسلحة والمفرقعات في جبل المقطم، ضابط اسمه مصطفي حمدي – عضو الجماعة – فانفجرت قنبلة وأصابت شظاياها رأسه، فنزف الدم منه، فأخرج أحمد ماهر منديله وربط به رأسه، لكن النزيف لم يتوقف، فمزق أحمد ماهر بطانة معطفه وربط بها رأس مصطفي حمدي، غير أن أصابته كانت بليغة فمات، فتركه ماهر وانصرف، وذهب في اليوم التالي ومعه عبد الرحمن الرافعي ويعقوب صبري لدفن الجثة. وروي دكتور شفيق منصور أيضا أن أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي وسليمان حافظ أرسلوا من الفيوم مبلغ 200 جنيه لوالدة مصطفي حمدي، وأن سليمان حافظ هو الذي كتب حوالة البريد بنفسه. وبحثت الشرطة في جبل المقطم في المكان الذي حدده شفيق منصور، فوجدوا الجثة. وتوقع الكثير أن النقراشي وأحمد ماهر سيعاقبان بالشنق. وأصدر النائب العام المحقق أمره بتفتيش مكتب المحامي سليمان حافظ وشريكه المحامي محمد عرارجي طبقا لما ذكره شفيق منصور في التحقيق، وأن يمدوه بنماذج من خطوطهما، وقد أحال هذه النماذج علي الخبير علي سعودي – وهو يعد ابرز خبير خطوط في مصر- ووعدوه بمكافأة كبيرة لو اكتشف الأمر وأثبت أن خطوطهما هو نفس الخط المكتوب به الحوالة البريدية المرسلة لوالدة مصطفي حمدي. وانتظر النائب العام تقرير الخبير، وبعد أيام ليست بالقليلة، قدم الخبير تقريره سلبيا ولم يتهم أحدا. وفي يوم من أيام عام 1937، - أي بعد حادث مقتل السردار الإنجليزي – بثلاثة عشر عاما - تقابل خبير الخطوط علي سعودي مع سليمان حافظ ومحمد حسن عرارجي المحامي، وقال خبير الخطوط إنه تأكد من أن الحوالة البريدية المرسلة لأم مصطفي حمدي بخط سليمان حافظ، وشرع في كتابة تقريره علي هذا النحو. وبدأ فعلا في كتابة الديباحة العادية للتقرير، ثم أجل كتابة باقي التقرير عندما يصحو من نوم القيلولة، فإذ به يري في منامه رجلا عملاقا ذا لحية بيضاء وعمامة، يقول له محذرا: - إياك أن تؤذي سليمان حافظ. فقام من نومه مذعورا، وانشغل بأشياء أخري، علي أن يعود للتقرير في مرة أخري، لكنه عندما نام ثانية جاءه نفس الرجل العملاق، يحذره من الإيقاع بسليمان حافظ. فكتب تقريرا سلبيا انقذ كل أعضاء جمعية التضامن الأخوي من العقاب المنتظر. وقال سليمان حافظ لخبير الخطوط علي سعودي: - فعلا أنا الذي كتبت حوالة البريد المرسلة لوالدة مصطفي حمدي. وبذلك نجا النقراشي وأحمد ماهر من الشنق. لكن الموت كان في انتظارهما بعد ذلك في حادثين آخرين: فقد حل النقراشي جماعة الإخوان المسلمين في 8 ديسمبر 1948. وتم اغتياله في 28 ديسمبر 1948، بعد أن تخفي القاتل – عبد المجيد أحمد حسن، في زي ضابط شرطة، وقام بتحية النقراشي حينما هم بركوب المصعد، وافرغ في ظهره ثلاث رصاصات ( نفس الذي كتبه إحسان عبد القدوس في روايته في بيتنا رجل ) وحكم علي المتهم الرئيسي بالإعدام شنقاً وعلي شركائه بالسجن مدي الحياة. ودعا الدكتور أحمد ماهر إلي انتخابات جديدة، وعارض في أن يترشح فيها أعضاء الإخوان المسلمين، بعدما استصدر فتوي ضدهم، وأعلن أيضا الحرب علي دول المحور - ألمانيا واليابان وإيطاليا- في الحرب العالمية الثانية، وكانت الحرب كادت تنتهي لصالح الحلفاء راغبا في الانتفاع بالغنائم الدبلوماسية في نهاية الحرب، وفور توقيعه علي قرار الحرب، اغتاله مصطفي عيسوي وهو في البرلمان. نهاية غريبة لبطلين عظيمين، قدما لمصر الوفاء والتضحية، لكن الصراع السياسي البغيض نال منهما وقتلهما. فعندما اقرأ – مثلا - آراء أعضاء الحزب الوطني فيما فعله سعد وغلول ورفاقه من جهد في تحرير مصر من الإنجليز، أعجب واندهش، فمعظمهم يتهمونهم بالخيانة والعمالة. هو – كما قلت – الصراع السياسيي البغيض، الذي لا يفرق بين الوطنية والخيانة.