«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عماد فؤاد: الشوارع ربَّتنا أكثر من آبائنا
نشر في أخبار الأدب يوم 17 - 05 - 2019

رحلة كبيرة قطعها عماد فؤاد من إحدي قري الدلتا إلي القاهرة، ومنها إلي بلجيكا، رحلة كبيرة ليحقق فيها بعضاً مما تمناه، حياة كريمة لائقة، وتميزاً شعرياً، إنه أحد الأسماء التي يُنظر إليها بجدية لا في مصر فقط، ولكن في العالم العربي، أصدر عماد ستة دواوين زيَّنها بديوانه الأحدث »تلك لغة الفرائس المحظوظة»‬، وهو أحد الشعراء غير المكتفين بأنفسهم، حيث يحاول بمحبة لافتة أن يقدِّم غيره من شعراء ارتبط بهم وأحب أعمالهم في أنطولوجيا صدرت في جزءين.
عماد فؤاد هو الأخ الأكبر لخمسة إخوة، ولد في أسرة فقيرة لفلّاحيْن نزحا من إحدي قري الدّلتا إلي القاهرة سنة 1976، أي بعد ولادته بعامين، وكبر في شوارع شبرا الخيمة وفي أحيائها الشّعبية مثل بهتيم وعزبة الصّعايدة ومسطرد، ولم يكن عفيًا بما يكفي ليجاري الحياة الصّعبة في الشَّوارع. يقول: »‬كنت الصّبيّ المهذّب قليلًا، المتفوّق في مدرسته، الذي يشاهد المشاجرات الطّاحنة بالمطاوي والسّنج والجنازير عن بعد، فيما ركبتاه ترتعشان من الرّعب، لكنّه الصّبي ذاته الذي يستمتع بردح النّساء لبعضهنّ البعض في نهارات الصّيف، فيما رجالهنّ يرتدون الفانلات البيضاء ويدخّنون السجائر في البلكونات».
وهكذا أن تعيش وتشاهد تفاصيل الحياة اليومية في أفقر أحياء مصر الشّعبية أوائل ثمانينيّات القرن الماضي، كان النّواة الأولي التي جعلته يلجأ إلي القراءة في سنّ مبكّرة: »‬كنت أقضي شهور العطلة الصّيفية طوال طفولتي في قرية والديّ بالدّلتا، وهو ما جعلني أحيا طفولة غنيّة بجانبيها الرّيفي والمديني. وفي أسرة بسيطة كهذه يكبر الأبناء نتيجة التجربة المباشرة مع الواقع، وليس من منظور الأب والأم فقط. وربما يكمن الاختلاف بين الأجيال القديمة والجديدة في هذه النّقطة تحديدًا، وهي أن الشّوارع علمتنا وربَّتنا أكثر من آبائنا. فيما نشأتْ الأجيال الجديدة بعيدة عن تأثير الشّارع المباشر عليها، نتيجة الخناق التربويّ الذي صرنا نمارسه نحن الآن كآباء تجاه أطفالنا بحجّة حمايتهم من الشّارع. من هذه العوالم الثّرية والمتناقضة تشكّلت شخصيتي وذائقتي الإبداعية بشكل أو بآخر».
في هذا الحوار يتحدث عماد فؤاد باستفاضة عن ديوانه الجديد، وعن تجربته الشعرية عموماً، وكذلك عن الغربة، وما فعلته فيه الحياة والأبوة، وتلك الرحلة الطويلة ذهاباً وإياباً من عاصمة إلي أخري، ومن وطنه »‬هنا» إلي حيث يعيش »‬هناك» في قلب أوروبا.
لنبدأ من الأسئلة العامة.. أكثر من 20 عاماً علي صدور ديوانك الأول »‬أشباح جرَّحتها الإضاءة».. ما الذي تغيَّر طوال هذا المشوار في نظرتك إلي الشِّعر والكتابة عموماً؟
تغيّر الكثير، وأكثر مما كنت أظنّ أنّني قادر عليه، ونحن صغار نكون أكثر خشونة في التّعامل مع ما يحيط بنا من أمور وأفكار وسلطات. تقودنا رعونة عفيّة وجميلة للصّدام مع الآخر، الآن بتُّ أكثر تأمّلًا في ما وراء المكتوب، ولم تعد نظرتي للأمور بالحدِّة القديمة.
مَن الشعراء الذين تنتمي إليهم جمالياً، هل أنت امتداد للتجربة الشعرية في مصر، أم أن آباءك غربيون؟
لا أعرف إن كنت أستطيع الردّ علي سؤالك هذا أم لا، لكنّني لا أعتقد أنّ هناك روابط جمالية ما أستطيع أن أقول إنها الأقرب لي، باسثناء جوهر الشِّعر وانتصاره لكلّ ما هو إنساني. حين يفكّر المرء في قائمة الشُّعراء الذين يحبّهم لن يجد روابط محدّدة وواضحة بينهم، بل علي العكس، ربما سيندهش من اختلافهم الفكري والثّقافي والفلسفي والدّيني أكثر من اندهاشه من تشابههم، وعلي الرّغم من ذلك يجمعهم خيط واحد بسيط وشفّاف إلي درجة أنّه لا يُري، هو انتصارهم للفطرة الإنسانية المشتركة بين جميع البشر في أيّ مكان وأيّ زمان، بشرِّها وخيرها، بأبيضها وأسودها، وإلا ما الذي يجمع مثلًا بين أبي العلاء المعرّي أو شيكسبير بنيرودا أو نيكانور بارا؟ ما الذي يربط بين رابعة العدوية أو ولادة بنت المستكفي بجويس منصور أو سنيّة صالح؟ ما الخط المشترك بين حمورابي وأخناتون وكونفيشيوس وبوذا من جهة وعلي بن أبي طالب وابن رشد والنّفري من جهة أخري؟ تختلف الأزمان والعهود وتقام ممالك وتنمحي امبراطوريات، ويبقي الجمال هو هو أينما كان، سنقف فاغري الأفواه أمام رسم حفره إنسان بدائيّ في أحد الكهوف كما سنقف بالفم ذاته أمام لوحة لدافينشي أو إيجون شيلي أو ديفيد هوكني. نستعيد اليوم بيتًا شعريًا لأبي نواس أو المتنبّي بالعذوبة ذاتها التي نردّد فيها مقطعًا شعريًا لوديع سعادة أو سركون بولص أو صلاح جاهين، هنا تكمن عظمة جوهر الشِّعر، وعظمته أنّه ليس حكرًا علي قالب أو شكل ما، لأنّه أوسع من أن تحدّه حدود.
هل الأنطولجيا التي أصدرتها في جزءين شملت كل الشعر أم من تفضلهم جمالياً؟
ليس هناك أنطولوجيا يمكن لها أن تشمل »‬كل» الشِّعر، لأنّ الشِّعر ليس كتلة واحدة كي يمكن الإحاطة به، كلّ أنطولوجيا هي اختيار وانتقاء، ومن ثمّ فهي أيضًا - وفي الوقت ذاته - إبعاد وإقصاء. انحزت في اختياراتي لذائقة جمالية تنتصر لما أراه شعرًا في تجربة قصيدة النّثر المصرية علي مدي 30 عامًا، وعبر ثلاثة أجيال، مؤكّد أنّني حكّمت رؤيتي الشّخصية جدًا كقارئ وشاعر متابع للمشهد الشِّعري المصري خلال العشرين عامًا الماضية، وتبلورت في اختياراتي النّهائية والتي ظهرت في الأنطولوجيا ل 53 شاعرًا مصريًا، وكلّ ما أرجوه ألا تكون سلبيّات الأنطولوجيا بجزءيها أكبر من إيجابياتها، وإلا أكون فشلت في تحقيق ما كنتُ أطمح إليه منها.
فكرة بدء الكتابة مبكّرا جدًا وأنت في سن صغيرة هل وراء نضجك المبكر في الشعر؟
لا أعرف إذا كنتُ قد وصلت إلي ما يمكن لي أن أسمّيه نضجًا أم لا، لكن بدايتي مبكّرا في الكتابة علّمتني أنّه لا مرحلة معيّنة من النّضج يجب أن يصلها الكاتب كي يكون كاتبًا، الكتابة موهبة أولًا وأخيرًا، يمكن لك أن تصقلها بالدّراسة والبحث والتّجريب، لكن لا يمكن لك بالدّراسة والبحث والتّجريب أن تصير كاتبًا، هذا ما تعلّمته حتي يومنا هذا، وهو ما يجعلني أتعامل مع كلّ كتابة جديدة لي باعتبارها الأولي، أدخل كلّ مشروع جديد كما لو كنتُ أكتب لأوّل مرّة، صحيح هناك تطوّر أشعر به في حرفيّة التّعامل مع النّص، وهناك الخبرة التي تراكمت حيال دروب الكتابة، لكن هناك أيضًا هذا الولع بالتّجريب وبالبحث عن مناطق جديدة، لذا أرجو ألا أصل أبدًا إلي هذه المرحلة الثّابتة أو اليقينيّة من الشّعور بالرضا عمّا قدمته حتي الآن، أُفضِّلُ أن أبقي ساعيًا إلي النّضج من أن أصل إليه.
وما الذي تفتقر إليه في غربتك؟
الكثير جدًا، الغربة تجربة مرَّة واختبار كان لا بدّ منه لأتعلّم الكثير عن نفسي، لولاها لما كتبت ما كتبت، لكن علي الجانب الآخر ثمّة دائمًا هذا الافتقاد الآسر لحياة أخري يمكنك الانتقال إليها وقتما شئت، وجودي خارج مصر مستمرّ ليقيني التّام أنّ هناك مكانا لي فيها أستطيع أن أعود إليه يومًا ما، فكرة الاغتراب لم ترسّخ بداخلي إلا احتياجي الدّائم لمكان في البلد الذي هجرته.
ما الذي تعنيه لك فكرة الأبوة، هل كنت من المنادين بقتل الأب؟ ما الذي تعنيه بالنسبة إليك العائلة وقيمة الصداقة؟
أعتقد أن تجربة الأبوّة هي أجمل ما مررت به في حياتي حتي الآن، تعلَّمت من آدم وإيليا أكثر ممّا علّمتهما، وجعلاني أنظر للحياة من منظور جديد ومختلف، وليس غريبًا أنّ تجربتي كأب هي التي جعلتني أستوعب علاقتي المضطربة مع أبي حين كنت مراهقًا. ستجدني مثلًا أكتب كثيرًا عن طفلي وأمّي وإخوتي في قصائدي، وعن فكرة البيت والعائلة، ليقيني التّام أنّ كلاً منّا كائن هشّ دون هذه المرجعية الأسريّة أو العائليّة التي تشعره بالانتماء إليها. من أجمل اللحظات التي أستمتع فيها الآن حين أري أمّي تداعب ابني أو أشاهد أبي يناكف أحدهما ويتعاركان.
إذا اتجهنا إلي ديوانك »‬تلك لغة الفرائس المحظوظة»، الصادر عن »‬ميريت»، سنجد أن عنوانه مركب، والغريب أنك تميل في معظم عناوينك، إما إلي عنوان علي هذه الشاكلة، أو عنوان من كلمة واحدة.. لماذا؟
العنوان بشكل عام إحدي العتبات الرئيسية والمهمّة لأيّ نصّ أدبيّ، لذلك أولي اهتمامًا خاصًّا بالوقع اللّغوي له وارتباطه بعالم العمل نفسه الذي أشتغل عليه. أحيانًا يستقرّ العنوان أمامي أثناء العمل علي الكتابة لفترات طويلة، وأحيانًا أخري أجده يتبدّل ويتغيّر يومًا بعد يوم تبعًا لتطوّر العمل واكتمال تشكّله. لكن هذا لا ينفي ولعي باختيار عناوين مميّزة ليس فقط لمجموعاتي الشِّعرية، ولكن أيضًا للكتب الأخري التي أشتغل عليها، كما في الأنطولوجيتين اللتين صدرتا للشِّعر المصري الجديد »‬رعاة ظلال.. حارسو عُزلات أيضًا» في 2007 و»‬ذئب.. ونفرش طريقه بالفخاخ» في 2016، أو في »‬الحالة صفر» في 2015.
من هنا مثلًا لا أستطيع تفهُّم الكُتّاب الذين يرسلون إليكَ عملًا منتهيًا لتطَّلع عليه، دون أن يكون له عنوان ما. هذه الحالة تربكني جدًا، وتجعلني أتساءل عن السَّبب الذي جعل الكاتب غير قادر علي تحديد عنوان ما يلخِّص تجربته الكتابيّة هذه. ولا أنكر أن هذا يعوق إلمامي بالعمل في شكل مكتمل، ويزداد ارتباكي لو طلب منّي أحدهم مساعدته في اختيار عنوان ما لعمله. الأمر يشبه شخصًا كتب رسالة ولا يعرف إلي من يوجّهها!
من ناحية أخري ثمّة حكايات طريفة تحيط أحيانًا باختياري لعنوان ما، كما حدث مع ديواني الخامس »‬عشر طُرق للتَّنكيل بجثَّة»، والذي سلّمته نهاية 2009 إلي دار الآداب اللبنانيّة، وقتها كانت هناك قضيّة قتل عامل مصري تمّ سحله في بيروت، وطالبتني دار النّشر بتغيير العنوان لأنه سيكون صادمًا في هذا التّوقيت بسبب هذه الجريمة، ولكن لأنَّني اشتغل علي العمل الشِّعري بوصفه مشروعًا مكتملًا وليس مجرّد قصائد يضمّها كتاب، وقفت أمام عجزي التّام عن تغيير العنوان لارتباطه الوثيق ببنية العمل الشِّعري، ومن ثمّ رفضت تغييره وخرج الديوان بالعنوان ذاته في 2010 دون أن يسبّب أيّ مشكلة تذكر. أمّا في العنوان الأخير »‬تلك لغة الفرائس المحْظوظة» فجاء نتيجة اشتغالي علي قضيّة اللغة من منظور شِعري في الديوان ككّل.
ينقسم الديوان إلي »‬دخول» و»‬خروج» وبينهما ثلاثة أقسام هي: »‬عن بلاغة الدم»، »‬عن نفسي»، »‬عن هشاشة المغفرة»، وكلّ منها يتفرّع مثل شجرة إلي عشرات الأوراق أو القصائد متنوعة الطّول.. ما الذي قصدته من ذلك التّقسيم؟
إذا كنتُ اعتبرت في إجابتي السابقة أنَّ العنوان هو العتبة الأولي لأيّ عمل إبداعي، فالتّقسيم الدّاخلي للكتاب، سواء شعرًا كان أو قصّة أو رواية، او أيّ نوع آخر من الكتابة، هو بمثابة هندسة فضاء النّص الدّاخلي، شيء ما يشبه تنظيمك للبيت الذي ستُدخل إليه قارئك، لتجعله يتلقّي نصّك بالصّورة التي تريدها أنتَ، لذلك مثلًا أستغرب أحيانًا ممّن يمسكون ديوانًا ما ويبدأون القراءة من القصيدة الأخيرة. أشعر حينها برغبة هؤلاء في مشاهدة نهاية الفيلم قبل أن يعرفوا الحكاية أو يروا تقنيّات سردها.
أُومن أنّ كلّ ترتيب للكتابة هو ابن عمليّة عقلية معقَّدة يسنُّها النَّص لنفسه أثناء عملية كتابته. والتَّقديم والتَّأخير في الأحداث يأتي من تصوّري الشَّخصي بأنّ علي الكاتب أن يكون آداة طيِّعة لمشيئة النّص الذي يكتبه وليس لرغباته هو ككاتب. في »‬تلك لُغة الفرائس المحْظوظة» كنت أمام عمل أخذ منِّي سنوات طويلة، وكان عليّ الالتزام بالتَّصوُّر الموجود في ذهني عن بنية العمل، لكن هذا التّصور كان يتشعَّب منِّي يومًا بعد يوم ليصل إلي مناطق لم أكن مُخطِّطًا لها، لذا وجدّتني أنساق شيئًا فشيئا وراء مخطّطه المرسوم بشكل كروكي في ذهني، والمبني علي »‬دخول» في البداية و»‬خروج» في النّهاية، وبينهما ثلاثة أقسام رئيسيّة كما ذكرتَ، كلّ قسم يسلّم إيقاع العمل للقسم التّالي، في تصاعد درامي ما، ينتهي بالقصيدة الأخيرة للدّيوان.
هذا التّرتيب سمح لي بالانتقال بين ثلاثة فضاءات لُغويّة وشعريّة، شكّل كلّ قسم من الأقسام الثّلاثة الرّئيسية حالة مغايرة عن الأخري، ففي القسم الأول بعد »‬دخول» والمعنون »‬عن بلاغة الدّم» يقف القارئ أمام مشاهد متتابعة في مدينة ما غير مسمّاة، تُرْصدُ شعريًا إمّا من قبل راوٍ ما، أو من قبل شخصيّات يتكرّر ظهورها بين حين وحين في القصائد، وفي القسم الثّالث »‬عن نفسي» هناك صوت واحد لشخص واحد، ثمّ في القسم ما قبل ال»‬خروج»، والمعنون »‬عن هشاشة المغفرة» نجد أن الخطاب الشِّعري فيه اختلف تمامًا، وصارت هناك مرتبة أكثر قدسيّة سواء في مستويات الخطاب الشِّعري أو في كثافة اللّغة التي كُتب بها.
تبدو معظم الذّوات في هذا الديوان وحيدة، كالأرملة التي ماتت وحيدة. تقول: »‬ماتت الأرملة فجأة صباح اليوم، ولم نعرف إلي من نذهب، وإلي أين نروح.. دخنا طوال اليوم نبحث عن قريب لها أو أحد معارفها، فيما تتحلل جثتها في الشقة تحت حرارة الصيف»، وكذلك الرجل الذي يصنع شبحاً ليحاربه: »‬شخص تافه.. كيف يجعل من صفحة بيضاء، فارغة أمامه، شبحاً يحاربه كل ليلة»، وأيضاً الرجل الذي يشتري كلباً »‬كي يؤنس وحدته»، هل الشعر يناسب الوحيدين؟ أو تنبغي كتابته، أو جزء منه علي الأقل، عن الوحدة؟ هل هذه إحدي الرؤي التي ينطلق منها الديوان؟
المفارقة الكبيرة التي ربَّما أصبحنا نتعامل معها باعتبارها أحد مسلّمات حياتنا المعاصرة، هي أنّنا وحيدون رغم كلّ ما نحياه اليوم من ثورة في وسائل التّواصل الاجتماعي، والتي شكّلت هي الأخري أمراضًا جديدة في مجتمعاتنا، قارن مثلًا بيننا نحن كجيل وبين أبنائنا الذين ولدوا في زمن هذه الثّورة من وسائل التّواصل، والمحصّلة النهائية التي نلمسها كل يوم هي أنّنا وحيدون. ثمّة هوّة ما ليس فقط علي مستوي التّواصل الإنساني، بل أيضًا علي مستوي ما راكمته هذه الثّورة في وسائل التّواصل الاجتماعي من أمراض مجتمعيّة جديدة، أولها اللامبالاة والبلادة التي صارت تصيبنا أمام الأحداث التي تجري كلّ يوم من حولنا، بلادتنا أمام الدّم اليومي المراق هنا وهناك، لذلك ربّما لاحظت أنتَ هذه الوحدة لدي أصوات الدّيوان، أو شخصيّاته، وأعتقد أنّها الوحدة ذاتها التي نلمسها اليوم وعن قرب، ليس فقط في المحيطين بنا، بل في أنفسنا قبل أيّ شخص آخر.
»‬عن نفسي، لم أحاول أبداً فهم السحر الغريب، الذي تمثله لي الأشياء المفقودة»، هل يمكن اعتبار هذا المقطع هو »‬الماستر بيس» الخاص بالديوان، حيث يحاول الشِّعر إعادة الاعتبار إلي أشياء كنّا ظنناها انتهت واختفت بغير رجعة؟
هذه مهمة الشِّعر، صحيح، أو قل إحدي مهامّه التي يقدّمها لنا من وقت إلي آخر، أيّ كتابة جيّدة في ظنّي مهمّتها قائمة علي إيصال هذا الإحساس إلينا؛ إعادة الاعتبار إلي أشياء كنّا نظنّ أنها انتهت واختفت بغير رجعة، وإلا لماذا نكتب، إن لم يكن لتثبيت لحظة ما مررنا بها يومًا، وأوقفتنا أمام عجزنا كبشر عن فهم هذا العالم المعقّد.
لكن تعليقًا علي فكرة »‬الماستر بيس» التي ألمحتَ إليها في سؤالك، والتي تحيلنا إلي ما يشبه فكرة القصيدة الأمّ أو الأساسيّة في الدّيوان، لا أعتقد أنَّ الشَّاعر الجديد لا يزال يفكّر بهذا الشَّكل الكلاسيكي أثناء تشكيله لحدود ومناخات عمله الشِّعري، أو دعني أتحدّث عن نفسي، وتحديدًا في الدّيوان الأخير، والمبني من ما يقرب من 100 قصيدة قصيرة في أغلبها، موزّعة بشكل عشوائي علي أقسام الكتاب الخمسة.
في مثل هذا التّرتيب وهذا القصر في مساحات القصائد، لا يمكننا ادعاء وجود »‬ماستر بيس» رئيس أو وحيد في الدّيوان، بل شكل من ألعاب البازل، تقوم اللعبة هنا علي إعادة تركيب الصّور الممحيّة أو النّاقصة بإعادة ترتيب قطعها المتناثرة. لذا لم تكن فكرة »‬الماستر بيس» في ذهني بقدر ما كنت حريصًا علي توزيع هذه القطع الصّغيرة جدًّا جوار بعضها البعض، لتنتج في النّهاية ما يشبه فسيفساء عفوية وغير سيمتريّة، لكنّها - رغم ذلك - تكوِّن في تجاوراتها الشِّعرية وتقاطعاتها اللُّغوية جمالها الخاص، وأرجو أن أكون نجحت في إيصال هذا المعني في »‬تلك لغة الفرائس المحْظوظة».
هل ما سبق يفسر قفز الماضي دائماً إلي الصدارة في الديوان، حيث هنالك دائماً حنين إلي مشاهد بريئة، وأشخاص صنعوا لنا بهجة أو دهشة ما، وعلي سبيل المثال، مشهد الجدة التي كانت تلف سيجارتها بإتقان يحسدها عليه أبناء الليل وقطاع الطرق ولصوص المواشي، كذلك الشخص الذي »‬كان يسكن بالقرب من بيتي، يخرج كل ظهيرة، مرتدياً أزياء النساء، وغيرهما؟
الذّاكرة هي كنز الكتابة الذي لا ينضب، نحن نكتب من منطقة خبراتنا التي تراكمت خلال حيواتنا، وكلّ كتابة هي حفر دائم لاستخراج هذه الخبرات العالقة في الذّاكرة والتي كوّنها ماضينا لنا. استدعاؤنا لمشاهد من الطّفولة يمكِّننا من فهم أنفسنا بشكل مختلف، من محاسبتها ومن تفهّمها والإنصات إليها، ولكن هذا لا يعني أنّ كلّ ما يكتب تحت هذا الإطار يندرج في ما يمكن لنا أن نسمّيه »‬سيرة شخصية» أو »‬ذاتية»، أو قل هنا تكمن براعة الكاتب الحقيقيّة، في قدرته علي تحديد متي ينفصل عن شخصياته ومتي يتورَّط معها، بهذا المقياس الصّعب أتعامل مع الكتابة كقارئ يبحث عن الصّدق قبل أن أكون شاعرًا يبحث عن الصّنعة.
بمعني آخر؛ أنحاز للكتابة التي تنتصر للإنسان في المطلق، ولا أحبّ الشِّعر الذي يمنحنا خبرة الشَّاعر الحياتيّة بوصفه »‬الشَّاعر» بألف لام التّعريف، ويكون علينا أن ننصت لما يقوله علي مسامعنا من حكم ومواعظ لأنه بين قوسين »‬الشَّاعر». علي القصيدة ألّا تكون مانيفستو ممهور باسم كاتبها فلان أو علّان، عليها أن تكون قصيدة منحازة لما هو إنساني في المطلق، لأن صدقها هو ما سيخلّدها وليس صنعتها.
لماذا يكثر ذكر السكاكين المشحوذة في القصائد.. ما الذي تحاول قوله، خاصة مع هذا التحذير: »‬سكين العفو، مشحوذة.. فلا تستخدمها، بكثرة»؟
ولمَ لا؟ في هذا الدّيوان أحببت أن أرصد لغة الفرائس، كما أرصد أعين القنَّاصين، الحياة الحقيقيّة بكلّ شراستها وعذاباتها تقع في هذه المسافة تحديدًا، ثمّة قانون ما يحكم الغابة، وبالتّالي هو القانون نفسه الذي يحكم حياتنا، نحن أيضًا كبشر ننقسم إلي فرائس وقنَّاصين، لذلك ربما يتحتَّم علينا في لحظات كثيرة أن نبدِّل من أدوارنا، وهنا يأتي دور الأخلاق، أو بالأحري معني أن تكون إنسانًا.
أخيراً.. هل تتّفق معي أن الأفكار في حدِّ ذاتها إن كُتبت بشكل ما تصبح أكثر شعرية من قصائد غارقة في المجاز، وعلي سبيل المثال: »‬البيوت، أماكن خشنة كحجر الرحي»؟
لا شعر بدون مجاز، سواء كان لغويًا أو كامنًا في بنية النَّص الشِّعري ذاته، الفكرة وحدها لن تصنع قصيدة جيّدة. أعتقد أنّ هذا الفهم نبع في لحظة ما من تناولنا المغلوط لكتاب سوزان برنار عن قصيدة النّثر الفرنسيّة، حين تناولنا نحن العرب هذا الكتاب وحاول بعض شعرائنا الانطلاق منه باعتباره كتابًا يسنُّ قوانين جديدة »‬يجب» علي قصيدة النّثر الالتزام بها. وأنا للأسف الشديد أحد الكارهين العتاة لكلمة »‬يجب» هذه. لأنّه لا يصحّ لها أن تدخل علي أيٍ من شروط فنون الكتابة أو غيرها، علي الفنّ أن يكون حرًّا، ويبقي الشّرط الوحيد لجعل هذا النّص شِعرًا أم لا، هو ما يسنُّه النّص لنفسه من قوانين، ومن طرائق للوصول إلي القارئ، وأتحدّث هنا عن العديد من الأشياء والمعايير اللُّغوية والموسيقيّة التي يجب أن تخرج في قالب يحكمه هارموني أو إيقاع ما، اختيارك للمفردات والكلمات للتّعبير عمّا تريد قوله أحد هذه المعايير، والموسيقي النّابعة من هذا الاختيار، من تجاور كلمتين وإنتاجهما لمعني جديد وغير مسبوق نتيجة هذا الامتزاج بين مفردتين، كلّ هذه الأمور تشكّل ركائز صناعة النّص الشِّعري الجيّد. أما الأفكار وحدها فلا تصنع شعرًا بدون ما سبق وأشرنا إليه، وإلا سنجد أنفسنا أمام نص ذهني بارد لا علاقة له بالشِّعر في معناه الأعمق، الشِّعر الذي لا نملك لتعريفه حتي يومنا هذا إلا قولنا »‬هو الفن الذي يستعصي علي التّعريف».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.