علي المقهي الشعبي البسيط الذي يضمنا (نحن مجموعة أصدقاء البراءة وثراء التنوع الثقافي والمهني) عندما يرخي ظلام الليل أستاره علي النهار، دار في إحدي ليالي الأسبوع حوار ممتع وشائق بقدر ما هو مفيد، بدأ بعدما سأل أحدنا الدكتور العلامة فكري حسن، عما إذا كان هناك تعريف منضبط للفظة الموضوعية تفرق بينها وبين »الحياد»، فانطلق الدكتور يشرح أن الحياد يكاد يكون خرافة مكتملة الأركان، إذ لا يستطيع الإنسان (لأنه كذلك) أن يحتفظ بمسافة واحدة متساوية تماما تفصله عاطفيا ووجدانيا وعقليا عن كل الأشياء وكل الأفكار وكل البشر، لهذا فيجب إسقاط حكاية »الحياد» من الموضوع.. لا يوجد حياد أصلا. أما الموضوعية، فهي علي صعوبتها وشروطها القاسية، شيء آخر ممكن أن ينجح البشر في الاقتراب من نموذجه العقلي ومن ثم التمتع برحابته. وكما تلاحظ عزيزي القارئ فقد تعمد صديقي استخدام تعبير »الاقتراب» وليس »امتلاك» هذا النموذج العقلي الثمين والقبض عليه كاملا.. لماذا؟ يجاوب الدكتور فكري قائلا: لأن شروط الموضوعية ومتطلباتها وعناصرها، هي أساسا أشياء رجراجة وغير مستقرة وتتحكم فيها عناصر متغيرة لا تقوم علي أي قطع نهائي أو يقين مطلق. هذا هو حصاد ما انتهت إليه رحلة العلم حتي في العلوم الطبيعية إذ لم تعد تستند إلي يقين تام ولا معطيات صارمة وإنما علي قدر مطمئن منهما تفضي إليهما التجارب والبحوث المعملية.. لقد تقدم العلم وحقق القفزة الثورية الهائلة التي نتمتع بمنتجاتها الآن من يوم الإقرار ب »حقيقة» أن لا حقيقة مطلقة أبدا، وأن الثبات السرمدي الدائم أمر موجود في الخيال فحسب، لكنه مفقود في واقع الكون الذي فطره المولي تعالي علي قانون الحركة الدائمة، ومن ثم فهو لا يستكين أبدا أو يستريح ولو مثقال ذرة من الزمن. لهذا ستبقي رحلة العلم مستمرة من دون نهاية، فما نعرفه اليوم من احتمالات ومعطيات، قليل جدا جدا ومجرد نقطة في بحر ما لا نعرفه وما سيقودنا العلم إليه في المستقبل. أنقل ما فهمته من صديقي الدكتور حسن وأعتذر عن أي خلل في التعبير، وأعتذر كذلك عن ثقل الكلام لكنه ضروري لكي نكتشف معا تعريفا (تقريبيا) لكلمة »الموضوعية» التي نلوكها بألسنتنا ليلا ونهارا (مع فيض من التعبيرات الأخري) من دون أن يكون في أذهاننا معني محدد وواضح لها، فكثيرا ما نستعمل هذه الكلمة للهجاء والمكايدة في آخرين والتشكيك في جودة آرائهم ومواقفهم، والآخرون كذلك يفعلون الشيء نفسه.. وفي ظل هذه الفوضي يضيع »الموضوع» ما بين من يدعي بالكذب ملكيته للحقيقة والحق المطلق، وبين من يرد بكذبة عكسية، أي الزعم بأن لا يقين علي الإطلاق. هل معني هذا أن الالتزام بالموضوعية في زخم الحياة خارج المعمل صعبة لدرجة أن تستحيل علي الناس العاديين أمثالي وأمثالك؟ هي صعبة فعلا لكنها قطعا ليست مستحيلة وإنما تحتاج إلي شروط ومتطلبات بعضها أخلاقي (مثل الاستقامة ورهافة الحس ويقظة الضمير) وأغلبها له علاقة وثيقة بالعقل وحجم ما سكن فيه من معارف وثقافة، وكذلك المقدار الذي تبدد من الجهالات والترهات والخرافات التي قد ننزلها من فرط بؤسنا منزلة العقيدة الراسخة والحقيقة النهائية التي لا حقيقة بعدها. صباح الخير..