ترامب يصف محاكمة بولسونارو ب"العار" ويقر رسوماً جمركية 50% على البرازيل    المبعوث الأمريكي: طريق واحد أمام "قوات سوريا الديمقراطية" هو دمشق    إعلام: الولايات المتحدة تستأنف إمداد أوكرانيا بالقذائف والصواريخ    إصابة 4 أشخاص إثر انفجار إسطوانة فريون بمركز صيانة بالفيوم    تشييع جنازة المطرب الشعبى محمد عواد اليوم من المسجد الكبير بالقنطرة شرق    بالأسعار والمساحات، الإسكان تطرح أراضي تجاري إداري سكني    الضل، رحلة أدبية إلى قلب الإنسان وحقيقته الغائبة للكاتب خالد الشربيني    فاصل زمني يقطع جرائم الاحتلال وآمال فلسطينية لإنهاء الإبادة    نجم الأهلي السابق ينصح برحيل ثلاثي الفريق    الزمالك: شيكابالا اعتزل بدون ضغوط من أحد    اليوم، غلق باب تقديم طلبات الترشح لعضوية مجلس الشيوخ    شركة البرلس للغاز تنجح في إضافة البئر الثاني "سبارو ويست-1" إلى خريطة الإنتاج بمعدل 40 مليون قدم مكعب يومياً    تشابي ألونسو: مررنا بيوم صعب أمام باريس سان جيرمان    نتيجة تخبرنا أين نقف الآن، ألونسو يكشف سبب الهزيمة أمام باريس سان جيرمان    رسالتان مؤثرتان من أرني سلوت وروبرتسون ل ديوجو جوتا    "محل شكوك".. تعليق ناري من نجم الأهلي السابق على شركة الزمالك    تفاصيل تحرك الزمالك لضم جوهرة تونس    برعاية ممدوح عباس.. الزمالك يضع الرتوش الأخيرة على صفقة من العيار الثقيل (تفاصيل)    السفير صلاح حليمة: البحر الأحمر هو المنطقة الرئيسية في صراع الشرق الأوسط    ارتفاع نسب الرطوبة.. تعرف على طقس اليوم الخميس 10-7-2025    "4 وفيات وخسائر خسائر وأبطال خلف الدخان".. حريق سنترال رمسيس من الاشتعال للسيطرة    "ثبتها بسكينة ومفك".. حكم قضائي ضد المتهم بسرقة سيارة سيدة بالإكراه في الجيزة    محكمة كورية جنوبية تؤيد القبض على الرئيس السابق    حماس توافق على إطلاق 10 محتجزين.. وخلاف في ثلاث نقاط" و"القسام" تكشف عن محاولتها أسر جندي صهيونى    "اللعبة كبرت".. طرح التريلر الرسمي لفيلم "الشاطر" بطولة أمير كرارة    شيكابالا يدعم إبراهيم سعيد بعد خروجه من السجن.. ماذا قال؟    ما أحكام صندوق الزمالة من الناحية الشرعية؟.. أمين الفتوى يوضح    «مستقبل وطن» يختتم اجتماعاته اليوم بلقاء مرشحي الشيوخ 2025    لرسوبه في التاريخ.. أب يعاقب ابنه بوحشية    سعر السمك والكابوريا والجمبري ب الأسواق اليوم الخميس 10 يوليو 2025    أهالي المفقودين في «غرق الحفار»: «منتظرين جثامينهم.. عايزين ندفنهم»    النائب العام يشارك في اجتماعات «اليوروميد» بلاهاي ويبحث مع رئيس «يوروچست» تعزيز التعاون القضائي والتدريب المشترك    عيار 21 الآن وأسعار الذهب اليوم ب السعوديه ب بداية تعاملات الخميس 10 يوليو 2025    بورصة الدواجن.. أسعار الفراخ البيضاء اليوم الخميس 10-7-2025 في قنا    جامعة كفر الشيخ: مركز التطوير المهنى نموذج خدمى متكامل    نائب المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة: العوائق كانت كثيرة في قطاع غزة    ضياء رشوان: الرؤية المصرية بشأن "اليوم التالي" في غزة الأكثر واقعية    الهيئة العليا للوفد توافق على طرح الثقة في رئيس الحزب و"عمومية" غير عادية 25 يوليو    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 10-7-2025 في محافظة قنا    عصام السباعي يكتب: الأهرام المقدسة    مستشار الرئيس لشؤون الصحة: ظهور متحور كورونا الجديد «نيمبوس» في 22 دولة    عميد القلب السابق يكشف المؤشرات الأولية ل الإصابة ب الجلطات (فيديو)    منذ أكثر من 30 عاما..الولايات المتحدة تشهد أسوأ تفش للحصبة    أحمد سعد يثير الجدل بحقيبة هيرمس.. لن تتوقع سعرها    أحدث ظهور ل آمال ماهر على السوشيال ميديا بفستان زفاف    أصيب به الفنان إدوارد.. 5 علامات تكشف إصابتك بسرطان الكلى    رسميا خلال أيام عبر بوابة التعليم الفني.. خطوات الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية 2025    شهادات عمال وفنيون على رصيف سنترال رمسيس: «كلنا نازلين نِلحَق نِرجَّع الخدمة»    «الدفع كاش فقط».. ارتباك في بنزينات القاهرة بعد حريق سنترال رمسيس    سعر طن الحديد والأسمنت ب سوق مواد البناء اليوم الخميس 10 يوليو 2025    «ترقب ومعاناة».. طلاب الثانوية العامة يروون ل«المصري اليوم» رحلة البحث عن الإنترنت    ارتفاع نسب السرطان بين الشباب.. عميد القلب السابق يحذر من الموبايل (فيديو)    فتح باب التقدم للالتحاق بمدارس التمريض «بنين وبنات» في الشرقية (الشروط والأماكن)    رئيس محكمة النقض يستقبل نقيب المحامين    77 مترشحًا يتقدمون لخوض انتخابات مجلس الشيوخ في اليوم الخامس لتلقي الأوراق    وكيل الأزهر: «المشروع الصيفى القرآنى» مبادرة تعزز دور الأزهر فى خدمة كتاب الله    بدايًة من 12 يوليو.. أماكن امتحانات كلية التربية الفنية في المحافظات لتأدية اختبارات القدرات لعام 2025-2026    أفضل دعاء للرزق بالولد وفقًا للقرآن والسنة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حين تسكن الأحلام وبنت النيل في الاحتفالات بمئوية الجامعة الأمريكية
نشر في أخبار الأدب يوم 23 - 02 - 2019

محاكاة لأحد جدران استويو شيرين جرجس توضح ملامح تجربتها البحثية
في عصر يوم من شهر فبراير سنة 1951‏ تحركت‏ درية شفيق من قاعة »إيوارت« في الجامعة الأمريكية بالقاهرة بعد أن ألقت خطابها الشهير أمام حشد من سيدات مصر قالت فيه « لقاؤنا اليوم ليس مؤتمرا لكنه برلمان.. برلمان حقيقي من النساء». وفي أعقاب ذلك قادت مسيرة تضم ألف وخمسمائة امرأة عبر شارع العيني لاقتحام أبواب البرلمان المصري للمطالبة بحق المرأة في الانتخاب والتصويت وتولي مناصب عامة ..
ويبدو أن لا شيء بالفعل يحدث بمحض الصدفة، فهناك في مبني الجامعة الأمريكية وعلي بعد خطوات قليلة من قاعة إيوارت وبعد ما يقرب من سبعين عاما تقيم الفنانة شيرين جرجس معرضها الفردي الأول بمصر من وحي معرض درية شفيق بقاعة «فيوتشر» وكأن صوت درية شفيق يأبي أن يخرج من المكان أو أنه ساكن بمكامن الجدران كل تلك السنوات .. ليتردد صداه مرة أخري ولكن في تلك المرة عبر مجموعة من الأعمال الفنية.
«بنت النيل» هو العنوان الذي خرج به معرض الفنانة شيرين جرجس، كأحد معرضين استضافهما مركز التحرير الثقافي الذي يقع داخل المبني الرئيسي للجامعة الأمريكية مطلا علي ميدان التحرير، والذي تزامن تدشينه مع احتفالات الجامعة الأمريكية بالقاهرة بالمئوية التي بدأت في شهر فبراير 2019 وتستمر حتي فبراير 2020، حيث يقف المبني في موقع فريد مطلا علي الميدان الذي شهد أحداث ثورة يناير وشهد عشرات من الأحداث الأخري من بينها تلك المسيرة التاريخية التي قادتها درية شفيق لنيل حق نصف الأمة في التصويت. ويأتي افتتاح مركز التحرير الثقافي وهو تحت إدارة الجامعة الأمريكية وبأحد أعرق مبانيها وبدعم من مؤسسة ساويريس ليضيف أجندة ثقافية جديدة تضاف للأنشطة الثقافية الخاصة بمنطقة وسط البلد والذي من المتوقع ان يقدم العديد من الأنشطة بما في ذلك المعارض الفنية والمؤتمرات والمسرحيات.
أما المعرض الثاني الذي افتتح في ذات التوقيت فقد حمل عنوان «أن تسكن الأحلام» للفنانة هدي لطفي.. وللطفي ارتباط وثيق بالجامعة الأمريكية حيث بدأت بها مسيرتها الفنية، بينما كانت – كذلك- تقوم بالتدريس من خلال منصبها كأستاذ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، حيث حصلت علي دكتوراه في الثقافة الإسلامية والتاريخ كتخصصها الأساسي، ويعد هذا المعرض هو أول معرض لها في الجامعة الأمريكية بالقاهرة منذ 20 عاماً.
اختارت المؤرخة الثقافية شيفا بلاغي، مستشارة رئيس الجامعة الأمريكية بالقاهرة والرئيس الأكاديمي للفنون والبرامج الثقافية، الفنانتين شيرين جرجس وهدي لطفي لتقدم من خلالهما معرضين بمثابة بداية لسلسلة من المعارض الفنية والأنشطة الثقافية بمركز التحرير الثقافي، حيث تقول عن اختيارها لهما تحديدا: من جانب ترتبط كل منهما بالجامعة الأمريكية بشكل أو بآخر، لكن من منظور أكبر، فإن الأعمال الفنية لكل منهما تلقي الضوء علي بعض جوانب التاريخ الخفية.
ومما لا شك فيه أن عنوان معرض «بنت النيل» جاء ملهما علي أكثر من مستوي، إذ يذكرنا بقصة حياة درية شفيق (14 ديسمبر 1908 - 20 سبتمبر 1975) فهي رائدة من رواد حركة تحرير المرأة المصرية في النصف الأول من القرن العشرين وينسب لها الفضل في حصول المرأة المصرية علي حق الانتخاب والترشح في دستور مصر عام 1956.. وقد ولدت درية في مدينة طنطا وتم إرسالها ضمن أول فوج طالبات من قبل وزارة المعارف المصرية للدراسة في جامعة السوربون في باريس علي نفقة الدولة، وهي نفس الجامعة التي حصلت منها علي درجة الدكتوراه وكان موضوع الرسالة «المرأة في الإسلام» حيث أثبتت في رسالتها أن حقوق المرأة في الإسلام هي أضعاف حقوقها في أي تشريع آخر. وقد ارتبط اسم «بنت النيل» ببدرية شفيق، إذ أنها أسست مجلة بنت النيل، التي استهدفت تعليم وتثقيف المرأة المصرية، كما أن لها الفضل في إنشاء حركة جديدة من أجل التحرر الكامل للمرأة المصرية، أطلقت عليها اسم اتحاد بنت النيل‏،‏ والتي تحولت بعد ذلك لأول حزب نسائي سياسي في مصر.
إلا أن الأمر لم يتوقف عند ذلك، فبنت النيل هو الاسم الذي يقترب كثيرا من الفنانة شيرين جرجس حيث ولدت بمدينة الأقصر عام 1974، ونشأت بها لتتشرب بصريا بكل تلك الرموز المصرية والتي انتقلت معها عبر رحلة طويلة، فقد حصلت شيرين علي درجة البكالوريوس من كلية الدراسات الإبداعية بجامعة كاليفورنيا، سانتا باربرا ودرجة الماجستير من جامعة نيفادا، لاس فيجاس وتشغل حالياً منصب أستاذ مساعد في الفنون الجميلة ونائب عميد الكلية بجامعة جنوب كاليفورنيا.
تقول شيفا بلاغي : هذا هو أول معرض لشيرين جرجس في مصر وهو نتاج عمل بحثي قامت به علي مدار عامين حول درية شفيق أحد رموز الحركة النسائية في مصر. وكجزء من هذا البحث استعانت بمكتبة الجامعة الأمريكية التي تضم أرشيفات درية شفيق.. وكنت قد شاهدت معرضها في أحد متاحف لوس أنجلوس، وتصادف مع ذلك أن أجريت محادثة مع رئيس مجلس أوصياء الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ريتشارد بارتليت الذي كان يعرف بمعرض شيرين في لوس أنجلوس، وهو في الوقت ذاته تجمعه صداقة بابنتي درية شفيق - عزيزة اللوزي وجيهان راجي - وكلاهما ينتميان لمجتمع الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
وتضيف بلاغي: كان من المهم أيضا أن نقترب من المشاهد، فما الذي نعنيه حين نقول «فنان قام ببحث حول مشروعه الفني لمدة عامين؟» ولإتاحة فرصة الاقتراب من تلك التجربة، قمنا أنا وشيرين جرجس بتجهيز غرفة بقاعة ليجاسي تضمنت جدار من استوديو شيرين في لوس أنجلوس يوضح كيف ترجمت المواد التاريخية إلي لغتها البصرية الخاصة. كذلك تضمنت الغرفة اثنين من الفتارين الزجاجية التي ضمت عددا من الصور والمواد الأرشيفية التي لها علاقة ببدرية شفيق وهي من مقتنيات مكتبة الكتب النادرة بالجامعة الأمريكية، كما قامت شيرين بتصميم لوحة جدارية كتب عليها بيت شعري بقلم درية شفيق .
تمزج شيرين جرجس بين تاريخها الشخصي وحياة درية شفيق إذ تطرح علي نفسها تساؤلا استقته من قصيدة كتبتها درية شفيق واختارت بيت الشعر الذي قالت فيه «ها أنا ذا عدت، فهل ترحب بي هذه المرة بمزيد من الحب؟» وإذا كانت درية تطرح ذلك السؤال عند عودتها إلي الوطن بعد تلك البعثة التي سافرت إليها بالخارج، فإن شيرين تعيد طرح نفس السؤال بينما تقدم أول معارضها الفنية بمصر.
وتتناثر تلك الكلمات بين عدد من اللوحات نراها في تلك اللوحة التي تقدم أجزاء من سور الأزبكية ولوحة دراسة في زهرة اللوتس، إذ لا تنفصل شيرين في العادة عن النص الذي يشكل مثيرا فنيا له، فهي في الغالب تعتمد علي نص ما، كما يرتبط بحثها الفني في الغالب بموقع معماري، لا سيما تلك المواقع التي تحمل تاريخا خفيا والتي تكون بالفعل خارج دائرة الضوء، حيث تعتبر جرجس أن العمارة حتي بشكلها الحديث هي الآثار غير الرسمية التي تحكي قصة الإنسان ولولا وجود المباني المعمارية في كل عصر لضاعت كثير من الحوادث التاريخية.
اختارت الفنانة شيرين جرجس خامة الورق لتقدم بها أعمالها، لتصبح الأوراق هي وسيلتها للحكي ولتفسير الأحداث التاريخية من خلال أسلوبها الخاص الذي قامت فيه بتفريغ الورق بطرق تعكس أفكارها البحثية العميقة والتي ربطت فيها بين تاريخها الشخصي ومخزونها البصري وتاريخ الشخصية محل الدراسة وكذا المعمار، وتبرز الزخارف المعمارية التي رسمتها بالقص علي الورق .. ولم تكتف جرجس بالأوراق بل أضافت إليها الكثير من المعاني من خلال استخدام الأحبار وألوان الماء التي تدفقت علي المسطح في عنفوانية تذكرنا بتدفق مياه نهر النيل وبثورته أحيانا، كما استعانت بأوراق الذهب في عدد من لوحاتها لتحيلنا ببراعة إلي المصري القديم بفلسفته، كلوحة قرص الشمس وزهرة اللوتس.
ولا يمكن للعين أن تخطئ تأثر شيرين الواضح بالفن المصري القديم، ليس كرموز دينية أو أيقونية وإنما كفلسفة وكأعمال فنية تشكيلية، وهو ما يفسر تأثر شيرين بالدائرة وبقرص الشمس الذهبي، وكذلك بزهرة اللوتس التي أعادت تفكيكها وتركيبها، كما يظهر اهتمام شيرين بالمثلث وهو ذاك الشكل الذي يحمل قدسية خاصة بالنسبة لها.
وربما يعتبر عملها «دموع إيزيس» وهو عمل تركيبي أحد الأعمال المتميزة التي تكشف عن المعاني الخفية لكل تفصيلة من تفاصيل أعمالها الفنية، حيث يظهر العمل علي شكل حبل يتدلي من السقف ويحمل تسع قطرات من الدموع مغطاة بالطمي .. تقول شيرين : فكرت في ذلك العمل الذي يحمل في ثناياه حكاية إيزيس التي كان عليها أن ترتحل بحثا عن أجزاء أوزوريس، ووظفت طمي النيل الذي غطي قطرات المياه التي تذكرنا أيضا بالنهر المتدفق.
تسع قطرات لم يكن رقما عشوائيا، إذ تحرص شيرين علي استخدام الرقم ثلاثة ومضاعفاته لتحيلنا مرة أخري لقدسية المثلث فنفكر في هذا العمل في ثالوث إيزيس وأوزوريس وحورس رمز الحكمة، إلا أن هناك روابط ثلاثية أخري تقود شيرين إلي كشوفات لها علاقة بذاتها، حيث تفسر: أفكر كثيرا في تلك الرابطة الثلاثية التي تجمع الأشياء، فمثلا هنا نجد رابطة بيني وبين درية وبين المصري القديم، ربما في عمل ثاني بين نهر النيل وسور الأزبكية وزهرة اللوتس غالبا ما أبحث في ثلاثيات وأريد من المتلقي أن يفكر وأن يذهب لما وراء السطح.. أما الحبل فقد حصلت عليه من أماكن صناعة المراكب، تلك المراكب التي تقودنا للتفكير في رحلة درية إلي باريس، الرحلة كرمز أيضا محمل بالعديد من التفسيرات.
تبدو التفاصيل الصغيرة محملة بفلسفة عميقة في أعمال شيرين جرجس .. الأمر الذي لا يبتعد عنها في الواقع، فقد انتبهت لذلك الوشم الذي يحمل شعار زهرة اللوتس علي يدها وكذا اختيارها لحلي تحمل شكل المثلث .. ليس هذا فحسب بل إن اختيارها لخامة الورق ذاتها يحمل بعد آخر فقد اختارت فن تم تصنيفه من قبل الغرب علي أنه حرفة أو صنعة ارتبطت بكونها حرفة شعبية لا ترقي لكونها أحد الفنون التي يتم الاحتفاء بها كما ينبغي، تقول جرجس: ترتبط تلك الحرفة بالمرأة، وبكونها حرفة شعبية، أردت أن أمنحها تقديرا كافيا بأن أقدمها في عمل فني معاصر يتم عرضه في قاعات الفن الحديث بنفس قيمة الأعمال التصويرية. فكرت أن أثير قضية حول ذلك التصنيف الذي يفرضه الغرب علينا حول الأشياء المهشمة ومدي تقبلنا وخضوعنا لتلك التفسيرات القادمة من الغرب، وكيف أننا بأيدينا نقلل تاريخ الشرق في مقابل التصنيف الغربي.
ومن خلال المعرض قدمت الفنانة أجزاء من سور حديقة الأزبكية حيث ألقت درية محاضرة حول النسوية بدعوة من درية شفيق .. وقد أرادت جرجس إعادة تقديم حكايات من تاريخ شخصية مهمة لم تكن هي تعرف عن حياتها شيئا بأسلوبها الفني، كذلك نجدها تقدم في ثلاثية بديعة زخارف من بوابة البرلمان تحمل اسم «اقتحام البرلمان» لتذكرنا بحادث اقتحام درية ورفيقاتها البرلمان، وعادة ما تختار الفنانة موتيفات معمارية تعطي مفتاح للقصة.
لم تكن درية شفيق هي الوحيدة التي شغلت تفكير شيرين جرجس حيث سبق لها وأن قامت بعمل بحث فني عن هدي شعراوي وهي التي قادتها للبحث عن درية شفيق حين قرأت اسمها في أحد الكتب، ومن هنا بدأت رحلتها البحثية وقادها المسار لأرشيف شفيق بمكتبة الجامعة الأمريكية، كما سبق وأن تناولت شيرين الأديب نجيب محفوظ كموضوع لأعمالها الفنية، حيث تر أنه لم يحظ بشهرة مماثلة في الخارج .. ويصبح عملها الفني هنا وسيلة لنقل تاريخها وتراثها الثري للعالم .. وقد حاولت شيرين تقديم رؤية محفوظ لمصر في أعماله، وكذلك كيف صور الشخصيات النسائية في أعماله.
حين تقترب أكثر من أعمال شيرين فإنك تكتشف المزيد، في كل عمل تفصيلة ما تعبر عن روح مبتكرة، في أكثر من عمل تجمع شيرين القصاصات لتعيد توظيفها بشكل مبتكر، إذ أن المساحات المقصوصة لا ينبغي التخلص منها، لكل شيء في الحياة وظيفة، في عملها التركيبي الثاني الذي أطلقت عليه «بنت النيل» قدمته بالأجزاء الباقية من عمل سابق لمشربية من معرض هدي شعراوي، لتقدم رابط جديد بين هدي شعراوي ودرية شفيق وبينها.
جدير بالذكر أن شيرين جرجس أقامت الكثير من المعارض فردية بمتحف سكوتسديل للفن المعاصر عام 2013، ومتحف الحرف والفنون الشعبية بلوس أنجلوس عام 2018. كما قامت أيضاً بعرض أعمالها الفنية دولياً في دبي، الشارقة، ومدينة البندقية في إيطاليا، إضافة إلي المعارض الدائمة في متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون، ومتحف مقاطعة أورانج للفنون، ومتحف الفنون الجميلة في هيوستن، ومتحف لاس فيجاس للفن المعاصر. وكان قد تم اقتناء بعض من أعمالها من قبل هيئة الفن العام التابعة لمحافظة لوس أنجلوس.
حين تسكن الأحلام علينا أن نتساءل
علي بعد خطوات قليلة من قاعة ليجاسي قدمت الفنانة هدي لطفي مجموعة من أحدث أعمالها الفنية في قاعة «مارجو فيون» .. وقد جاء اختيار اسم القاعة تخليدا لذكري الفنانة السويسرية مارجو فيون العاشقة لمصر، فقد كانت مولعة بالحضارة والبيئة والثقافة المصرية، وعبر سنوات عمرها التي تجاوزت التسعين عاشت ترصد وتتأمل حياة المصريين البسطاء.
وفي تلك الرحلة بين عالم شيرين جرجس وهدي لطفي شعرت بأن هناك احتفاء ما بالتاريخ الخفي للمرأة، إذ يأتي معرض «بنت النيل» احتفاء بتجربة فنانة مصرية مهتمة بالتاريخ الخفي لشخصيات نسائية رائدة من أمثال هدي شعراوي ودرية شفيق من خلال الفن، بينما تتضمن قاعة مارجو فيون أعمال الفنانة المصرية المعاصرة هدي لطفي، وكأنها رحلات متداخلة في حيوات مجموعة من النساء اللاتي جمع بينهم حب مصر وتعدد الثقافات، ولذا حين سألت الناقدة شيفا بلاغي عن سر اختيار الفنانتين للعرض في نفس التوقيت أجابتني: هذان معرضان مختلفان تمامًا، ولكنهما يتطرقان إلي العديد من القضايا الحالية: العلاقة بين التاريخ والحياة اليوم ؛ العلاقة بين الفنان والمجتمع وأهمية الإبداع.
في رأيي أن هناك أكثر من رابط استشعرته في تلك الرحلة الفنية، الأمر يتعلق بالرحلة إلي الداخل لاستكشاف الذات من خلال الأعمال الفنية، كذلك فإن كلتا الفنانتين اعتمدتا علي تقديم خامة شديدة الصلة بعالمهم الخاص وبرهافة شديدة تعكس رحلتهم الذاتية في أعمالهم الفنية. إذ أن هدي لطفي تستعين بنطاق عريض من الخامات والمواد والألوان والكولاج والقص واللصق والتكوينات، كما تستخدم برامج مونتاج الصور والفيديو، وتعيد توظيف العرائس في سياقات متنوعة، وبها تستكشف تلك الأدوار المتعددة التي تلعبها المرأة في الثقافة البصرية.
ويبدو معرض الفنانة هدي لطفي حميمي وشخصي، تقول شيفا بلاغي عن المعرض: أردنا خلق مزاج متناغم في المعرض، ففي إحدي الغرف، قررت هدي طلاء الجدران بلون لافندر ناعم. أردنا أن نضفي إحساسا مرحبا علي الغرفة, لذا علقنا اللوحات ورتبنا المنحوتات بالطريقة التي قد نجدها في صالون المنزل، بل ووضعنا في المعرض بعض قطع الأثاث من منزل هدي كجزء من العرض.
رابط آخر بين المعرضين يتجلي في الاقتراب من المتلقي، إذ اتاح معرض «بنت النيل» الفرصة للإبحار في عوالم شيرين البحثية، كما أتاح معرض «أن تسكن الأحلام» فرصة الاقتراب من عوالم لطفي الداخلية، تلك التفاصيل التي تشكل عالمها الفني وتفاصيل حياتها وكل تلك الأشياء التي تستعين بها في أعمالها الفنية والتي تحصل عليها من خلال جولات مستمرة في أرجاء المدينة، تلك الرحلة بين بيتها والاستديو الخاص بها قامت بها بلاغي لتكتب نصا بديعا موازيا للمعرض عن تجربتها في استكشاف عوالم لطفي التي تعيش في منطقة وسط البلد.
تقول شيفا بلاغي: التقيت مع هدي في الاستوديو الخاص بها في وسط القاهرة في أكتوبر ومرة أخري في ديسمبر، قررنا معًا عرض جميع الأعمال الفنية الجديدة – عدد من اللوحات والمنحوتات والفيديو . إنه الشعور بأن الفن صامت ويثير الدهشة ويدعونا للتأمل ويعكس ما في الداخل.
وتضيف فيما كتبته عن المعرض: إن المسافة بين بيت هدي والاستديو الفني الخاص بها هي تلك المسافة بين حياتها وفنها.. وتلك الرحلة التي تقطعها في شوارع مدينة القاهرة بزخمها وحالة النشاط وصولا إلي ذلك المكان الهادي المنعزل حيث تمارس عملها الفني هو ما يمنح هدي تلك الحساسية الفنية .. فعبر العديد من السنوات أصبحت هدي ما يمكن أن نطلق عليه خبيرة بتلك المنطقة أو آثارية تحفظ معالم المنطقة الحضرية، حيث تقدم منتجها الفني من خلال توظيف كل تلك العناصر التي تقع يدها عليها من جولاتها بشوارع القاهرة . وبغض النظر عن المواد الأساسية المصنوع منها عناصرها الفنية التي توظفها، فإن تلك العناصر والأشياء التي تحصل عليها تتحدث وتكشف النقاب عن شكل الحياة في أوقات سابقة .. ولذا فإن أعمال هدي الفنية تذكرنا أن فنها بشكل ما يعكس الحالة الإبداعية المؤرقة بين العنصر والموضوع، بين العالم المادي وبين اللاوعي الكامن في الداخل.
والحقيقة أن هدي لا تترك شيئا ما حولها إلا وتجيد توظيفه في عالمها الفني، فكل شيء مشروع عمل فني محتمل، العرائس القديمة.. قصاصات الورق .. أثاث بالمنزل، كما أن كل الأشياء أيضا يمكن أن تتحول لأبطال، الحذاء في لوحة «الحذاء المفقود» ، القطة في عدة لوحات، السرير، الكرسي، الشمعدان، كلها أشياء تحتل بطولات أعمالها ولها حكايات سرية تكشف عنها.. ومن ثم تترك هدي مساحات كبيرة للتأويل.. فهي تستمتع بقراءتي للعمل وتبتسم قائلة «ممكن جدا»، ثم تتحدث بعبارة قصيرة جدا تثير داخلك مزيد من الأسئلة.
وتجيد هدي لطفي عنصر تفكيك العناصر وإعادة تركيبها في علاقات وسياقات جديدة جديدة، ليس فقط فيما يتعلق بالجمادات وإنما أيضا بالإنسان، فكثيرا ما وظفت الأقدام في أعمالها الفنية، في هذا المعرض تجد الأقدام والأعين والآذان وغيرها تظهر في بطولات مستقلة حاملة دلالات عدة.. فمثلا تعتبر هدي العين والأذن هي الأدوات الأهم في استكشافنا لعالم الأحلام الذي يبدو وكأنه واقع .. كما تمتزج تلك العناصر بالموجودات، نجد الرأس المستلقية وحدها علي الكرسي كما في «مقعد للراحة»، أو مجموعة الرؤوس التي تتأرجح في الواقع يضاجعنا وهكذا..كما تكتسب الموجودات حياة ما..فالكرسي شاهد علي الأحداث..وفردة الحذاء تبدو عائدة للتو من مشوار ما..وكأن الأشياء أصابها المس وبها روح خفية قادرة علي البوح في أي وقت.
و تقدم هدي علاقات جديدة وتعيد تفسير المفاهيم الشائعة, فالغراب لم يعد نذير شؤم علي العكس هو صديق الإنسان، بل يمكنه أن يقوم بفعل الإبصار، أحيانا تفاجئنا بتفسيرات صادمة كما في لوحة الواقع يضاجعنا، أو ولادة .. إذ ربما تتمرد علي المفاهيم الحميمية الدافئة المرتبطة بفكرة الأمومة .. الأمومة أحيانا تشبه القيد إنها فخ من نوع ما..علينا أن نتقبل إذا كل التفسيرات ونقدم تفسيرات جديدة تخصنا كمتلقين.
في زيارتي الثانية لمعرض «أن تسكن الأحلام» كنت أرغب في الاستماع إلي صوت أعمالها بعيدا عن ضجيج زحام الافتتاحات، وجدتها بانتظاري بابتسامة هادئة وكنا نقف أمام كل عمل نتأمله.. نتحدث بصوت منخفض لنترك مساحة لأفكارنا الداخلية وتأملاتنا التي يوحي بها العمل.. ليس هناك من رابط واحد يجمع كل تلك الأعمال سوي أنها تنتمي إلي عالم لطفي الداخلي في كثير من الأحوال.
طوال رحلتنا في المعرض أستمع إلي الموسيقي المنسابة من الفيديو الذي يحتل البطولة في الغرفة الأولي، إذ يحمل الفيديو عنوان المعرض «أن تسكن الأحلام» ويبدو اهتمام الفنانة بهذا العمل، فيحتل الفيديو جدار كامل، وقد استعانت فيه بصورة فوتوغرافية التقطها أحد الأصدقاء وهو برنارد جيو وقامت بتحريكها، يعكس الفيديو مجموعة من الأرجل التي تتحرك برتم متكرر، إذ تتقدم الأقدام وتتراجع.. تفسر هدي اهتمامها بفكرة التكرار قائلة: إنه التكرار الذي يؤدي للصمت أو السكون .. ففي كثير من المدارس الروحانية أو الصوفية يعتمدوا علي تكرار حركة معينة وصولا إلي حالة السكينة.. أو الفصال عن الواقع والتحليق.. إذ يمكننا أن نلمح أيضا تلك الحالة في عملها «وجوه محلقة».
وكما ذكرنا من قبل يبدو شغف الفنانة هدي لطفي بفكرة الأقدام، فكثيرا ما توظفها في أعمالها المعاصرة، إذ تعكس الأقدام فكرة الرحلة أو المسيرة، بالنسبة لها الأقدام تعبر عن حركة الحياة في عملها «ذهاب وإياب» الذي يقع في مواجهة الفيديو تبدو الأقدام ملفوفة بما يشبه الكفن في المصري القديم، ولكنها لا تسير في اتجاه واحد إنما تقف في مواجهة بعضها البعض ويفصل بينهما خط أسود كممر بين الحياة والموت.. أو بين الشيء ولا الشيء أو العكس.. إنه يجسد حكاية العبور.. بكل معانية .. العبور من الحياة للموت ومن الواقع للخيال ومن الحلم لليقظة والعكس.
وقد اختارت لطفي أسماء مميزة لكل عمل من الأعمال التي قدمتها وخرج كحكاية منفصلة، ولذا فإن الأمر يحتاج لأكثر من زيارتين لتقديم قراءة في كل عمل علي حدا.
ومن الجدير بالذكر أن الفنانة هدي لطفي فنان تشكيلية ومؤرخة للحضارة الإسلامية، وقد حصلت علي الدكتوراه في الثقافة الاسلامية والتاريخ من جامعة ماكجيل بمونتريال بكندا 1983وتعتبر هدي لطفي من أهم الفنانات التشكيليات المصريات المعاصرات، وقدمت العديد من المعارض في مصر وخارجها بينها «أن تكون رجلاً»، ومعرض «قص ولصق»، ومعرض «أجساد جاذبة».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.