حدثني صديقي الروائي المغربي محمد عزالدين التازي: مر يومان علي رحيل محمد شكري فقلت في نفسي سأزور قبره، كانت روحي عشيتها منقبضة حتي انها كانت مستعدة لأن تخرج بمجرد قبضة من يد، السيارة تتوجه الي المقبرة كفرس لا ترغب في الرحلة، والمطر الغزير يغسل طنجة. مطر مطر مطر لاتهزمه إلا رغبتي في الوصول إلي القبر الحافي. رغم انني حضرت الجنازة إلا أنني نسيت أين دفن محمد بالضبط، ذلك أن هناك مقبرتين متجاورتين، وكان لابد أن استعين بإدارة المقابر، فتح كهل سجلات الموتي وراح يفتش فيها، لكنه لم يعثر علي المطلوب، قلت في نفسي انني لن اعود حتي اجده، هل يعقل أن ينسي محمد ولم يمر علي دفنه إلا يومان؟ الكهل الموكل بالسجلات يؤكد لي انه لو كان مدفونا عندهم لما فاتهم ان يسجلوه، طالبا مني البحث عنه في المقبرة الأخري. خرجت.. محمد شكري لايترك عاداته أبدا، كنا نبحث عنه احيانا وهو حي فلا نعثر له علي اثر، ثم يطلع علينا من حيث لانحتسب، وهذا الذي كان: اخيرا عثرت علي قبره وقد سقاه المطر، ورود ندية تعلو رأسه.. من هذا الذي جلبها في هذا اليوم الممطر؟، لعلها بائعة الزهور التي كتب عنها صديقه جان جينيه، لكن هذا مستحيل، واذا بفتي يظهر لي من الجهة الأخري.. سألته: هل انت صاحب الورود؟، قال: نعم، قلت: هل تعرف صاحب القبر؟، قال: لا قلت: وما الداعي إلي ذلك اذن؟، قال لي انه مكلف من القصر الملكي بان يرعي القبر، وبأن يجلب الورود له يوميا. قلت للتازي: لكن شكري كان متمردا، ومصنفا خارج الأعراف التي ينتمي إليها المخزن، فكيف تم هذا الاحتفاء؟ قال: لست افهم السبب، لكن الذي حصل ان القصر تكفل بعلاجه في المستشفي العسكري قبل رحيله، وبعد رحيله تكفل بالجنازة وبمأدبة العزاء التي كانت ملكية فعلا. سألته عن قبر جان جينيه في طنجة، فقال لي انه مدفون في مدينة العرائش المطلة علي المحيط الأطلسي، علي بعد ثمانين كيلو من طنجة، قلت: ان الشائع انه مدفون في طنجة، لكن رغم هذا سأزوره. ما ان ركبت الحافلة من طنجة الي العرائش يوم 23 مايو 2012 حتي اقتحمتني رغبة جموح في الكتابة، انتبهت الي انني نسيت قلمي البارحة في نادي بالما حيث سهرت مع الروائي الليبي محمد الأصفر، لم اجد حلا غير التوجه الي الفتاة التي جنبي، تعمدت الوفاء للهجتي الجزائرية، اعطتني سيالة زرقاء بروح تلفها كل الألوان، لكن الذي حدث ان القلم سقط مني وتسرب بين الأرجل، ضغط الكتابة علي ضغط الخجل من الفتاة، انه تحالف ضغطين من انثيين: الكتابة والفتاة.. لابد ان تتصرف قلت لي، ولم يكن تصرفي غير انني فتحت حديثا مع جارتي في المقعد عن نصي المجهض بضياع قلمها، هل هو قلمها ام قلمي في الحقيقة؟ ومن الخاسر الأكبر؟، هي حيث فقدت قلما، ام انا حيث فقدت نصا، واكتشفت به نهاية الرحلة انني فقدت بحديثي الحميم معها كل رغبة في الكتابة، هل كانت ستكون هناك كتابة ادبية لو لم يكن هناك كبت في الحياة؟ كان صديقي الشاعر ادريس علوش ينتظرني في المحطة، سألني ان كنت افضل زيارة مكتبه في معهد الموسيقي اول ام قبر جينيه، فقلت له مازحا: البداية تكون مع الأحياء الحقيقيين، فتوجهنا الي المقبرة المسيحية رأسا حيث قبر جان، طرقنا بابها الرئيسي فلم يرد علينا رادّ، انتابني خوف من الا تتم الزيارة، لذلك شرعت في القفز عاليا علني اري شيئا خلف السور، اقترح عليّ علوش ان نلف من الجهة الأخري علنا نعثر علي الحارس وهذا الذي كان، فتحت لنا زوجته التي خرجت من السكن الوظيفي التابع للمقبرة التي ترعاها مملكة اسبانيا. كانت في استقبالنا سلحفاة معمرة ودهشة وليدة، قبور انيقة علي بساطتها تعلوها الصلبان، ما عدا قبرا واحدا علي الطريقة الإسلامية، انه قبر صديقنا جان قال علوش، قلت مندهشا: ولكن كيف؟، رد علوش: إنه الإيمان الفعلي بالاختلاف، مسيحي يطلب ان يكون قبره اسلاميا في مقبرة مسيحية ترعاها اسرة مسلمة علي ارض المسلمين، هل اذعي انني قادر علي ان اسخر اللغة في وصف تلك اللحظات التي قضيتها في حضرة جينيه؟، مستحيل.. فالمقام يعلمك ان الخلود لأعداء الادعاء، لذلك سأكتفي بالقول إنني وجدتني اسأله: عزيزي جان. متي ستموت؟