لا يتعلم مسئولو الآثار من مهنتهم. يراهنون علي الزمن للنسيان، رغم أن كل ما يحيط بهم يحض علي التذكر؛ تلك التركة الفاتنة التي آلت مسئوليتها إليهم.. للأسف. قرار تفكيك المنابر ونقلها من أماكنها الأصلية ليس وليد اليوم، القرار الذي أفزع الجميع مؤخرا بعد تفكيك منبر مسجد ومدرسة »أبو بكر مزهر» يخطط له منذ 10 سنوات أو يزيد. فمنذ عام 2008 نشطت عصابة الآثار لسرقة مجموعة محددة من الآثار الإسلامية في القاهرة التاريخية، ونجحت بالفعل في تفريغها من أندر ما فيها، وفقدت جميعها أجزاء أثرية نادرة تنوعت ما بين حشوات المنابر أو أجزاء زخرفية من المساجد نفسها، وتابعت »أخبار الأدب» القضية ونشرت علي امتداد عامين مجموعة تحقيقات حولها، وتعتبر صفحاتها التي لا تزال موجودة لمن أراد سجلا لأبرز ما فقد من آثار، وكان من أبرز تلك السرقات وأفدحها: سرقة منبر »قاني باي الرماح»، وسرقة كل زخارف منبر مسجد الطنبغة المارداني بالدرب الأحمر، وجزء من زخارف جانم بهلوان، ولوحة أثرية من سبيل رقية دودو، وجزء من زخارف منبر مسجد الصالح طلائع، وريشتا منبر مسجد منجك اليوسفي بالقاهرة القديمة وبعض حشواته، وحشوة خشبية من الضلفة اليسري للباب الخشبي لمسجد الفكهاني الأثري، المطل علي حارة حوش قدم وهي عبارة عن حشوه مزخرفة بالحفر الغائر، وكل زخارف »كرسي المقرئ» بمسجد ومدرسة السلطان قايتباي المطعم بالصدف والعاج والحشوات الدقيقة وكان يجلس عليه قارئ القرآن يوم الجمعة، شباك سبيل أم محمد علي الأثري الذي يقع بميدان رمسيس بأول شارع الجمهورية أمام مسجد الفتح. وتوالت الجرائم وتكررت في بعض المساجد نفسها، ورغم فداحة الجرم، ورغم أن كل تلك الآثار خرجت من أماكن تتميز بكثافة سكانية عالية، لم يتم القبض علي أي شخص له علاقة بالأمر، ولم يكتشف الفاعل حتي الآن! وقتها رفض جميع المسئولين الاعتراف بوجود تخطيط عصابي منظم يستهدف الآثار الإسلامية، ودخل مسئولو الأوقاف والآثار في حرب شرسة، كل منهم ألقي بالمسئولية علي الطرف الآخر، وزارة الثقافة أعلنت أن مسئوليتها تنحصر في عمليات الترميم فقط، في حين تقع مسئولية الحراسة كاملة علي الأوقاف، والأخيرة حاولت إدارة الأزمة بشيء من الدبلوماسية فوعد مسئولوها بجلسات خاصة مع مسئولي الآثار لتحديد المسئولية وللاتفاق علي طريقة ترضي جميع الأطراف، الجلسات تمت بالفعل ولكن لم يتم الاتفاق علي شيء، وأيضا لم يتم التوصل إلي مرتكبي حوادث السرقات، وهي التصريحات نفسها التي تتكرر حتي الآن، ونفس الوعود بجلسات جديدة! زاهي حواس الأمين العام للمجلس الأعلي للآثار وقتها قال إن الطريقة الوحيدة لحماية الأجزاء الأثرية هي نقلها من المساجد ووضع أخري مشابهة لتجنب السرقة ولحفظ ما تبقي من منابر نادرة. حواس أكد وقتها علي وجود لجنة تعمل بالفعل علي دراسة إمكانية استبدال المنابر الفريدة الموجودة في المساجد الأثرية، بأخري مصنعة تحمل نفس الشكل تقريبا، ونقل الأخري -الأصلية- إلي متحف أو إلي »مكان خاص» لم يحدد لحمايتها من السرقات المتكررة. في النهاية تم الاتفاق علي تكليف الأوقاف لشركة حراسات خاصة لتتولي مسئولية الحراسة علي مدار اليوم في حين يشارك المجلس الأعلي للآثار مشاركة مادية فقط وتتولي الأوقاف عملية الإدارة بشكل كامل، لكن لم يحدث أيضا أي شيء من هذا، تصريح حواس أثار وقتها ردود أفعال واسعة بين المتخصصين في الآثار الإسلامية، وحظي بكم كبير من التعليقات لأنه - حسب رأيهم- دليل واضح علي عدم اهتمام المجلس الأعلي بالآثار الإسلامية، ورفض المتخصصون فكرة الاستبدال علي أساس أنها ستشوه الطبيعة الأثرية للمساجد، وأيضا لأن الفكرة ربما تمتد إلي كل ما هو أثري في المساجد وبالتالي ننفي عنها صفة الأثرية. الراحل د.عبد الحليم نور الدين الأمين العام السابق للمجلس الأعلي للآثار كان من أبرز الرافضين للفكرة، وقال لأخبار الأدب وقتها إن المنابر من أهم عناصر المسجد دينيا، وفي المساجد الأثرية فإنه يضاف إليها بعد آخر نظرا للقيمة التاريخية التي يحملها وللأحداث التي كان شاهدا عليها، وهذا بعد تاريخي لا يمكن إغفاله، وتجاهله. لذلك اعتبر نور الدين أن تغيير المنبر الأثري نوع من التعدي والتشويه، لأن الأمر لن يتوقف عند حد استبدال المنابر فقط، بل سيمتد أيضا إلي محاريب الكنائس وكل الزخارف الإسلامية والقبطية في المساجد والكنائس، وبهذا الشكل يتم القضاء علي الطبيعة الأثرية لهذه الأماكن تماما، وهدم كل عناصرها التاريخية والجمالية، والأفضل في وجهة نطره كان توفير الحماية لهذه الأماكن قبل غيرها نظرا لما تحمله من قيمة دينية، وهي في النهاية أماكن مقدسة تقام فيها الشعائر الدينية. توقف المشروع، أو هكذا بدا، وقامت الثورة، مياه كثيرة جرت في النهر، لكن العصابات لم تتوقف، واستغلت حالة الفراغ الأمني لتنشط في أماكن أخري، ونجحت علي فترات في الانقضاض علي ما تبقي من مساجد أثرية في القاهرة، ووصل الأمر إلي حد سرقة 5 مشكاوت من مسجد الرفاعي المحروس علي مدار الساعة، وهي السرقة الوحيدة -تقريبا- التي تم فيها القبض علي الجناة. وفجأة ودون سابق إنذار ينفذ خالد العناني وزير الآثار مقترح سلفه، باعتباره السبيل الوحيد للحفاظ علي ما تبقي من آثار في مساجد القاهرة القديمة، قرار العناني الذي وافق عليه مجلس الوزراء كان يشترط السرية بحسب نص القرار 110 الذي يعلن الموافقة علي نقل »المقتنيات الأثرية» إلي الوزارة دون أن يحدد عددها أو طبيعتها أو حتي طريقة النقل التي كانت فضيحة عالمية بكل المقاييس. الغريب في الأمر أن الوزارة التي نقلت المنبر خشية عليه من السرقة بحسب نص القرار، تقول الآن في بيان رسمي إن النقل تم خوفا علي المنبر من المياه »الأرضية» والحشرات! علي أي حال فالقرار إقرار صريح بالفشل، كما أنه ينسف الفكرة التي عملت عليها الوزارة كل السنوات الماضية، لتحويل القاهرة القديمة إلي متحف مفتوح للآثار الإسلامية، فما يحدث ببساطة سيفرغ المساجد من أندر مقتنياتها التي صنعت تاريخها وأكدت عظمة صناعها، ولن يبقي في المتحف المفتوح سوي هياكل حجرية فارغة. دشن الرافضون صفحات علي »فيس بوك» لتنظيم فعاليات توضح خطورة القرار، وبحث طرق مواجهته، كما رفعت دعاوي قضائية أيضا لوقف القرار، اختصمت كلا من رئيس مجلس الوزراء، وزيري الآثار والأوقاف، مساعد وزير الآثار، رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية، رئيس المجلس الأعلي للآثار بصفتهم القانونية. حاليا يواجه العناني الرفض نفسه والاعتراضات نفسها التي واجهت سلفه، لكنه علي العكس لا ينوي التراجع، فقط خفف من حدة الأزمة بإعادة عرض منبر مزهر المختطف في متحف الحضارة، مع وعد بدراسة القطع الأخري المرشحة للتفكيك، وعدم نقلها إلا »للضرورة القصوي».. بمعني أوضح مجرد انحناء للعاصفة، وتأجيل القرار حتي تمر الأزمة.