في السنوات العشر الأخيرة قبل الثورة، كانت كل المؤشرات تؤكد حدوث كارثة. وبدلا من أن تأتي الكارثة حدثت ثورة. لقد تسربت الكارثة، ويأسها، لتمنح الناس أجمل مافيها: حس المخاطرة بحياتهم. الكارثة والثورة لهما علاقة وثيقة بالموت. الكارثة نهاية لحياة، والثورة يكمن بها احتمال الموت. هذا التجاذب بين لحظتين مختلفتين للموت، ربما هو الذي ولد طاقة هائلة تسربت للشعب في نفس اللحظة وربطت بينه. عبرنا للحياة عبر الموت. تلك الطاقة كانت محصلة لرفض كل فرد منا علي حدة للموت، وفي الوقت نفسه تمنيه. بين رفض الموت وتمنيه خرجت حياة جديدة. هذه الحياة الجديدة ستكون، إلي حين، محصورة بين قوسي الموت. ستعيش أجيال مطاردة بشبح الكارثة التي لم تحدث، بالكارثة التي تحولت فجأة إلي ثورة. مطاردة بالحدود القصوي، بخطوط النهايات، بالتجاوز، باليأس الذي تحول فجأة إلي نشوة وسعادة. خرجت الثورة من رحم هذه التناقضات كلها. لقد وحد الموت، وأوجهه المختلفة، بين أجيال عدة، عاشت سوية لحظة استثنائية. كان ضريبة أن نثور، أن نحيي الموت من مرقده، وندخله في نسيج حياتنا. وهذه إحدي صور المسئولية. إننا هنا نعيد إنتاج الموت، ليس كسؤال نهاية وآخرة، بل كبداية، كسؤال حياة. لقد منحتنا الثورة وجها فلسفيا لحياتنا، ولثقافتنا، لم يكن موجودا من قبل بهذا الشكل المركز والساطع والحيوي. روح القنوط واليأس التي نستشعرها الآن، جزء منها يعود، ليس فقط بسبب الظروف المحبطة التي تحطونا، ولكنها آتية من صلب نسيج تكويننا النفسي. لايمكن أن ننسي شكل حياتنا قبل يوم 25 يناير، وكيف كنا نفكر، وكيف كنا نري المستقبل. هذه النقلة التي أحدثتها الثورة معجزة بالفعل. مثل معجزة الرسالات الكبري، ولكن الثورة ليست هي زمن الرسالة، وإن تشابها؛ الذي سيجب ماقبله ويبدأ من نقطة الصفر. ربما أحد أسباب اليأس الأساسية هو إحساسنا بأن الزمن من حولنا أمسي عادياً، وفاقدا للبريق، وليس استثنائيا كأيام الثورة الأولي. الزمن الاستثنائي الذي كنا نري فيه أنفسنا في أقصي لحظات تحققها، ونستمع فيه لنبض كينونتها. سيستمر منحني السعادة واليأس متذبذبا بين الصعود والهبوط حتي يتكون وعي جديد. ولن يحصل هذا إلا بالتحرر من الوعي السابق الذي كان يحكم حياتنا، بتصفية مراكز قوته داخل كل نفس، بالموازاة مع تصفيته داخل مراكز السلطة الكبيرة. الثورة عادة تصنع دوجما سياسية وعاطفية، وهذا طبيعي، ولكن الإضافة الحقيقية، التي مازلنا نمتلك ناصيتها، أن يحدث التعدد داخل هذا الوعي الثوري. لأن وعينا السابق علي الثورة كان مشبعا باليأس والقنوط، وأي وعي مشبع باليأس والقنوط هو وعي أحادي مهما كان عمق ووجاهة يأسه. هو وعي ضد النفس وضد الحياة. هناك آخر مازلنا لم نره حتي الآن داخل أنفسنا وخارجها. وعندما نراه سنفرح بهذه المعجزة التي تحققت، وبهذه الحياة الجديدة التي أوجدناها من العدم، أو من بين فكي الكارثة.