في الدُورِ الخامس غُرفة 43 كَانت الطُرقة خَالية ونَظِيفة، ابِتسامة صَغيرة بلا مَعنيَ، بَاردة كالثلجِ، وكُنت مُوزعاً بين خرائطِ النُعاس بالحلمِ في بلادي، وبين السنديانِ العتيق في بِلاّدهم، بمستشفيِ صغيرِ، صغير جدا مُلقي هناك. تًموج أرجوحة الغناء الشريد كلما هَزها الوجد بالطفلِ داخلي، غَير أنها تنسكب علي ملاءةِ بيضاء فوق سريرِ أبيضِ يتأرجح ويرتفع بياضا ناصعا، لأعلي سقف الغرفة، لجواري تقف مُمرضة بيضاء، يعملون بصمْتِ رتِيبِ، بلا حروف تتحرك فوق الشفاهِ، بضغطةِ من يدكِ تأتي، وأنا أنزف حروفا تتساقط مني كالوجع والجرح، معدتي التي تُؤلمني بشدة، أضغط عليها....وعدتني بالبقاء، لكنها لم تجئ، كُنتُ أجلس مُنتظراً /وحيداً /صامتاً/ تسقط المواعيد ثانية والحدائق، التهيؤ والوعي المُتبقي في زمني يهذي بما يكفي.أهاجر الخريف إلي مُدنِ تَسبِقُني وأسبقُني مرتين إلي وقتِ يَعلّمُنِي ولا أعَلمُه، أنظرُ للساعةِ أشك في عُطلِها لأنها تُؤخر الوقتْ أكثر ما ينبغي، عَلمَتنِي اِحتَرّّاف البُكاء في صمتٍ بلا صوت، لكني كنت مُزخرفاً كالكتابةِ في زمنِ يَطاوع الجنون ويسبق الأولين للركض، حَاملاَ ناصية الفَرح الطُفُوليّ بضحكةِ طفوليةٍ وفرحة طفولية ومشية طفولية، حين تَدق أقدامِها فوق البلاطِ يَهدأ اشتعالي، كان والضَجيج الذي يَسبق الركض في سعفِ النخيل في بلاديِ وأشجار البُوص والترعة الجانبية مع حزنِ وَفِيّ، يَسُقط كالبكاءِ بلا وجع، سوي التفاتاتِ وجهُك الأزلي في عمري، كنت أعرف..أمارس الهداية، أحاول أن أسيطر علي ذلك العُمر الفريد، طقس جديد في شتاءِ مَرير يزدحم بالتفاصيل كي أعبر النهاية وأبقي علي الهاتفِ طويلا، أسمع صوت الوطن، هكذا مُعلقا في البدايةِ، وخزتنيّ الإبرة في ضُلوعيِ، كنت مُستكينا ليدها الثمينة تَحضن مُؤخرتيّ وتفعص الجُرح في يديها، يَسقط القناع والنزيف وتُواجهني بوجهِ يُشبه الابتسامة الحزينة. الوجَع الأخير مَضَي ثَقِيلاً كالليلِ، تضغط علي مُنتهاي، بَقيتُ في السريرِ مُمددا وحولي لا أحد، ولا أحد كان يَجيء أو يَروح، صَامتا وهزيلا أحاول في الذاكرةِ، كي أبقي هكذا في الذبولِ وانتظار الأفول، في احتساءِ الضجيج ومضغ الصمت في الوجوهِ، وهمسك فوق بابي عَالقا بالتهدجِ لم يزل، يُعانق الفرح/ فرح طُفوليّ ووجه طفوليّ يَنخُر الذاكرة، ويَأنس للوحَشةِ ثانية. أنا في انتظاركمِ والسلام .....في الطريقِ ألقيت البقايا معها، وذهبت أبحث عن منطقة مُختصرة للعالمِ تُلخص الحِكاية وتَعرف التفاصيل واحدة/ واحدة، تعرف دَارنا والمُدن التي جِئت مِنها، قالت: إن الجُذور التي تَنتمي إليها حَواسك تُعلن الهزيمة ووجِهُكَ الأزلي لم يزل يحملُ الرسم نفسه، يسقط في فخ الحِوار ثانية.....كان المطر والسحابات تنزف مِنه، ينهمر نَهَمْا، حَاملا أيقوُنات السماء بالرزقِ والمواويل القديمة، عن الزرعِ والحَصِاد في قريةِ بَاليةِ كما قال جَديّ أمام عروشِ المَمالكِ في نيويوركِ، كانت تقول: إن الهزائم المُتكررة للراكضينِ في الغيمِ شيء بديهي، الذين يُحبون الأرض بحثا عن أي مُستنقع كي يَموتوا والسلام في هدوءِ ورحمة، يموتون ولا شك. - السلام الذي أفادنا جميعا لأننا لا نصلح أن نكون سوي الأغبياء.الأغنياء حين تَنعدم المُشاهدة الأخيرة للذاكرةِ أفرحُ كما يَفرحون.....أعُلن أن الصمت أول الكلام، لكنها تُمطرُ بشدةِ وتتحداني، لم أكن أملكُ التَحدي، كُنت مُحاصراً بلا أي داعِ، في الدورِ الخَامسِ نَسيتُ الرقم والكِتابة، بين خوفيِ والذاكرةُ البليدة، رأيتُ قريتنا التي تَقفُ أمام عُروش الممالك في نيويورك. قريتنا الهزيلة كانت لا تزال لها بريق يَحتفي بي في الغياب.