1 لو يعرف صديقي ما عانيته علي مدي سنوات طويلة.. وأنا أبحث عنه في كل مكان خطر ببالي أن أجده فيه.. بعد أن فقدت الأمل في العثور عليه.. في المكان الذي عشنا فيه سنواتنا الأولي.. نلهو ونلعب.. ويضمنا مكان واحد.. في مدرسة صغيرة تقبع وحيدة إلي جوار السكة الحديد فوق تل مرتفع ومن بين فتحات أسوارها الخشبية نشاهد أسطح بيوت القرية الصغيرة المتلاصقة من حولنا.. كانت فرحتنا بأنفسنا لا تعادلها فرحة أخري.. خاصة أننا كنا نمثل الجيل الثاني.. الذي يجد فرصته كاملة في التعليم.. بعد الجيل الأول الذي سبقنا.. وتبوأ مكانته في سلك التعليم والأنشطة الاجتماعية الأخري.. ومن بينهم شقيقه إبراهيم الذي لاحقته الإعارة.. إلي دولة خليجية فور إتمام تعليمه.. كانت أحلامنا فوق ما تجيش به صدورنا.. خاصة ما هو كامن منها كمارد القمقم.. والذي لا نعرف كنهه.. وإن كانت إرهاصاته تدب بقوة في داخلنا.. أحلام مبهمة.. غامضة.. نستشعرها ولا نعرف لها شكلا.. أو معني.. لكننا حبونا في ظلها.. داخل الدروب والأزقة الضيقة.. التي تبدأ من أمام المدرسة.. وتنتهي عند الترعة.. والكوبري الخشب.. المؤدي إلي الطريق السريع. 2 وكنت دائما أحسده علي خطه المنمق الجميل.. وقدرته علي تقمص الشخصيات.. وأداء الأدوار.. كل صباح.. وكان يحسدني علي قدرتي الإبداعية وصياغة العبارات والجمل.. والمواقف التي سوف يجسدها في اليوم التالي.. كان حلمه أن يلتحق بإحدي الكليات العملية.. بعد الثانوية العامة وكان له ما أراد وما تمني.. ودخل كلية الهندسة في الجامعة الإقليمية الحديثة الإنشاء.. والقريبة من القرية.. بينما حملتني رياح الاغتراب إلي المدينة الكبيرة.. التي لا قلب لها.. ومن الوهلة الأولي دوي هاجس في داخلي يدعوني إلي الهرب. 3 كان طريقنا واحدا.. وباعدت بيننا الطرق.. يمم هو جنوبا.. بينما اتجهت إلي الشمال، في ذلك الحين اعتراني إحساس بأن طريقنا لن يلتقي مرة أخري.. لكني لم أتخيل.. أن يستمر كل هذا الزمن. 4 وسط النخلات الخمس في البيت القديم.. كانت تجلس أمه أمام فرن الخبيز.. تدفع "بالبشكور" الحديد إلي الداخل وتخرجه مرة أخري وقد علقت به أرغفة الخبز الساخنة.. وجوارها تقف ابنتها عطا.. أخت أحمد الكبيرة.. قالت لي أمه بود وحنو شديد أجلس يا ولدي.. ثم مدت يدها برغيف ساخن وقالت لعطا احشيه للعربي سمنا وعسلا يا عطا.... فرحت عطا وأسرعت إلي الداخل ثم عادت بعد أن أغرقت الرغيف بالسمن والعسل وقدمته لي.. فأتيت عليه بنهم شديد.. ومسحت يدي في خرقة بجوارها.... قالت لي وهي تدفع رمية وقود في بطن الفرن العلوي... هل أعد لك رغيفا آخر يا عربي؟. في صمت وبرضا نفس قمت واقفا.. انحنيت علي رأسها الملفوف بالشال الأسود.. ثم قبلتها كما كنت أفعل دائما.... وبينما كنت أرفع وجهي عن رأسها.. كانت تمد يدها لي.. بجلباب قديم.. ملفوف حول بضعة أرغفة ساخنة وصوتها المبحوح الشجي يسبق يدها سلم علي أمك.. وأعطيها الأرغفة الساخنة.. ثم عقبت أعرف أنها لم تخبز منذ الاثنين.. واليوم هو الخميس.... ثم عقبت مرة أخري.. سوف تفرح كثيرا.....ودعتها بابتسامة كبيرة.. ولوحت لها بيدي.. شيعتني عطا حتي باب البيت.. وبعدها لم أرها مرة أخري. 5 كان يبدو لي أن ما بين الشمال والجنوب.. هو تماما كالذي بين السماء والأرض.. وخيل لي أني لن أحتمل كثيرا.. بعثت برسالتي الأولي إلي الجنوب.. وجاءني الرد سريعا.. حارا.. ملتهبا.. يفيض بالأشواق ولوعة الابتعاد.. ويلوم الزمن الذي فرق بيننا.. وعلي أمل بلقاء قريب.. فرحت كثيرا.. لكن رسالتي التالية لم أتلق ردا عليها.. تاهت في الطريق.. وبعد الرسالة الثالثة.. تثاقلت اليد.. وفترت حرارة الأفكار داخل الرأس.. وإن بقيت الرغبة.. وظل الحلم متوقدا لا يخبو له ضوء.. في أننا سوف نلتقي.. ذهبت إلي الجنوب حيث كنا في زمن كان.. طرقت باب البيت قيل لي: أهل الدار أقاموا دارا أخري في آخر الطريق.. عند الجسر... ذهبت إلي البيت الجديد.. استقبلني إبراهيم.. شقيقه الأكبر.. والعائد توا من رحلة الإعارة إلي الخليج.. بكت عطا عندما رأتني.. وعرفت أن الأم قد ماتت.. وبموتها تلاشت كل معالم الزمن القديم.. وعرفت أن صديقي مازال في أقصي الجنوب. 6 تثاقلت الخطوات.. وتوالت السنون.. أسأل عنه بقوة.. وفي إلحاح.. وصورته لا تفارق خيالي برهة برأسه الكبير.. وجبهته العريضة.. شفتيه الضاحكتين دوما.. ويخيل لي أني سألقاه في أي لحظة وفي أي مكان.. ربما في الطريق العام أو داخل قطار.. أو سيارة أتوبيس.. لكن ذلك لم يحدث. لمحت واحدا يشبهه إلي حد التطابق في ميدان باب الحديد.. أسرعت اليه وجدته شخصا آخر.. عند زيارتي للبلدة القديمة.. وكانت قد مرت سنوات طويلة.. ذهبت الي دار ابراهيم وجدتها مغلقة.. سألت.. وعرفت أنه شيد دارا أخري عند خط السكة الحديد.. بجوار مدرستنا القديمة.. وانه الآن مسافر لأداء فريضة الحج.. اسقط في يدي.. ووضحت الرؤية أمامي.. أنها طريق مسدود. 7 وأعود وتساؤلي في داخلي.. وإلي نفسي أوجه اللوم وأتهمها بأنها تبحث عن وهم.. وتنطلق وراء سراب.. وصديقي هذا هو محض خيال.. لا وجود له في الواقع. 8 ويمسك أحدهم بذراعي.. يستوقفني.. يتفرس في وجهي.. يقول لي: أنت فلان..؟.. وأرد في دهشة: نعم.. وأسأله: ومن أنت..؟.. ويرد: أنا من بلدتك.. رأيتك هناك.. وكنت تبحث عن صديقك.. صرخت مبتهجا: هل تعرفه..؟.. هل لديك أخبار عنه..؟.. إنه الآن.. ومنذ أحيل إلي المعاش يعيش في الإسكندرية.. صرخت.. فأكمل: لا أعرف له عنوانا.. ولكن معي رقم تليفونه.. 9 أسرعت إلي التليفون.. طلبت الرقم مرات عديدة.. جرس التليفون يرن.. ولا أحد يرد وخيل لي أن ما يحدث هو استكمال لرحلة الوهم التي مشيت فيها منذ البداية.. وبدل أن أركن إلي اليأس.. فوجئت بسماعة التليفون ترفع.. وصوت وقور يرد.. سألته في لهفة.. أنت فلان..؟.. نعم.. أنا هو... واستطردت: من البلدة الفلانية..؟.... نعم.. والدك فلان..؟.. نعم.. والدك فلان..؟.. نعم.. وأمك السيدة الفاضلة فلانة.. رحمة الله عليها..؟.. وأختك(......)..؟.. رد ضاحكا.. نعم.. واصلت بفرح: وأخوك(.......).. ؟.. قال: نعم.. وسألته مرة أخري: وكنت في المدرسة التي تجاور السكة الحديد..؟... عاد ضاحكا وهو يقول: نعم.. ثم استطرد قائلا: أنت تعرف كل شيء عني..؟.. واصلت: لقد كنا صديقين.. وزميلين في مدرسة واحدة.. حتي نهاية المرحلة الثانوية.. عاد يسألني: من أنت..؟.. اندفعت قائلا: أنا فلان الفلاني.. هل تذكرني..؟.. صمت قليلا وكأنه يفكر قبل أن يرد قائلا: آسف.. أنا لا أتذكر أحدا بهذا الاسم.