الليل له وخزات يعرفها قلبه، وروحه تعرف وطأة الحزن عندما يشتد الظلام فى الطريق الطويل، والليل من عاداته أن لا يكترث بنبرة الاضطراب فى أرواح المرهقين، النجوم تبتعد نحو عوالم الصمت فى تلك الساعة المتأخرة من ليل لندن، كان محجوب غريب الهادى فى القطار الهادر فى ظلمة الأنفاق، إنه ليس آخر من يعود إلى بيته وحيداً، ها هم جميع الركاب متعبون، وحيدون، وهذه فتاة شابة سوداء تنام وحيدة تسند وجهها براحة كفها الأيسر، وتمسك بحقيبتها الحمراء باليد الأخرى غير عابئة بانحسار الثوب عن ساقها الأبنوسى التى تلامسها العيون بشهوة صامتة، وذاك خمسينى أبيض يغمض عينيه مبتسماً وكأنه يحلم بامرأة طيبة، الوجوم يحوم حول الوجوه الأخرى، ومحجوب عائد لتوه من وليمة الفراق. كانت سعاد قد دعته تلك الليلة إلى وليمة، أسمعته فى البداية قصائد من الشعر الإنجليزى تحكى عن الحرب والعودة وأعياد الميلاد، استدرجته إلى الممشى الأسمنتى المحاذى لنهر التايمز تحت جسر واترلو، فى برد مارس القارس، كانت الساعة تشير إلى العاشرة ليلا، أسندته إلى عمود كونكريتى ضخم، اقتربت منه كثيراً، التصقت به، قربت شفتيها حتى صار يسمع هسيس أنفاسها وصدرها يعلو ويهبط، الشاطئ مهجور إلا من بعض المارة الذين يمشون بسرعة هرباً من البرد، والنهر كان يضيف إحساساً مضاعفاً بالبرودة، المراكب مطفأة المصابيح إذ لا سياح ولا عشاق ولا سكارى، ولكن ماذا يفعل ذلك المغنى الأسود فى هذا المكان؟ لماذا اختار هذا الركن المهجور؟ لجلد الذات أم هو الأمل المستحيل لعل أحداً يمر فينقده بعض النقود ليشترى به شيئاً من البطاطا المقلية وعلبة سجائر أو حتى زجاجة بيرة، كان مستنداً إلى عمود الكهرباء يعزف على قيثارته مرددا أغنية غير مشهورة: "أيها السائر لوحده على الرصيف/ وفى مخيلتك صورة الحبيبة/ تلك التى هجرتك إلى غيرك/ لا تبتئس كثيراً/ فحبيبتك التى تشبه الآن حقلا بهيجا/ سيغادرها الألوان/ وتهجرها العصافير وتصير يباباً/ بمجرد أن يتوقف هطول المطر، دن دن دن ددن دن". الله ماذا يعنى هذا المغنى الأسود، قالها محجوب فى سره، وما أكبر الفرق بين هذا المكان وبين "كوفنت جاردن"، حيث المقاهى والمطاعم والبارات المزدحمة، ونادراً ما يرى الإنسان هناك امرأة وحيدة أو رجلا وحيدا. اقتربت سعاد أكثر، التصقت به أكثر، عانقته بلا خجل من النهر وأسماكه، وبلا اكتراث من المارة وكاميرات المراقبة، همست فى أذنه: أيها الصديق، سنفترق بعد قليل، وستكمل رحلتك إلى المنزل بدونى، سنفترق بلا حرقة ولا دمعة ولا لسعة، سيكون لفراقنا وقع جميل، سيكون أجمل فراق وأسهل فراق فى حياتى، فكلانا يا صديقى تجاوز الأربعين ونتفهم الأمور بروية وعقل، لنتألم ولكن كل على انفراد ونتناول العشاء الأخير على انفراد، سأجعل لفراقك هذه الليلة نكهة الجوز والعسل، وأشبعك باللمس والهمس، سأحيطك بحنان كامل وأغدق عليك عناقاً وقبلاً، سأودعك ببساطة ولكن دون حقد أو زعل. مدّ يده من تحت المعطف الأسود، تحسسها كأنه لم يصدق وجودها معه، لم تكن كالليلة فى السخاء والعطاء ولم تمانع فى شىء، ماذا ستفعلين بعد فراقى، قالها وهو يمثل دور القوى المتماسك: لا شىء سأعود إلى غرفتى الباردة أتذكر بين جدرانها أهلى وجيرانى وتقافز الأطفال من حولى وصخب الأعراس، سأعود إلى غرفتى إذ ينتظرنى سرير وكتب مبعثرة وملابس مكومة حيث لا دفء أم ولا حنان أب ولا ضجيج إخوة، لقد اتصل بى صديقى القديم ووعدنى بالزواج سأعود إليه فأنا أحبه. انتفض محجوب، فصل جسده عنها برفق بالغ كما يفعل الآباء، صافحها بأدب، مشى معها بصمت حزين، شعر بأن الليل ازداد ظلاماً والبرد ضاعف حدته والنهر زاد هديره، وقفا على قارعة الطريق عدة ثوانٍ، اتجهت هى نحو اليسار حيث موقف الباصات واستدار هو نحو اليمين حيث محطة القطار، وحانت منه التفاتة، فوجدها تصعد إلى الحافلة المتجهة نحو "كنغ كروس" يعتليها مسحة انكسار. ما زال القطار يتنقل بين المحطات تحت الأرض، وما زال التعب يرتسم على وجوه الركاب وقد تخلى الجميع عن جرائد المساء التى توزع مجاناً فى قطارات لندن، سمع الجميع من مكبرات الصوت نبأ الوصول للمحطة الأخيرة: This train will now terminate here, all change please, Take all your belongings with you, all change please. "هذا القطار سيتوقف هنا وعلى جميع الركاب النزول واصطحاب أمتعتهم معهم"، فقام محجوب من مقعده متثاقلاً وهو يتمتم قائلاً: إيه، إذن هكذا تنتهى الحكايات، لقد ذهبت سعاد، ونسيت أن أعيد إليها صورتها التى أهدتنى إياها فى لقائنا الأول فى أحد المؤتمرات، نسيت أن أقول لها تذكرينى على الأقل كلما دقت الساعة العاشرة أو كلما رأيت جسراً، أو كلما دخل الليلة بظلمته أو كلما ضاق صدرك أو كلما ذكرت أهلك أو، أو، أو.. كل ساعة عاشرة ونحن بحزن عميق. (*) القصة حقيقية، لكن الأسماء غير صحيحة حفاظاً على خصوصيات الأفراد، وقد مرت على هذه الحادثة عشر سنوات، وقيل إن سعاد لم تتزوج حبيبها لأنه لم يجئ قط، وما الفائدة من معرفة أنه مات أثناء عبور الحدود أو أنه ببساطة أخلف وعده وتزوج بنت الجيران وخلف منها عدداً من البنات والصبيان، وأنها حصلت على اللجوء بعد أن ساءت حالتها النفسية، وهى الآن تعانى الوحدة بمفردها فى شقتها الصغيرة غرب العاصمة لندن يشاهدها البعض أحياناً، وهى تجر آلامها كما تجرّ عربتها اليدوية متجهة نحو متجر (تيسكو) القريب لشراء بعض الحاجيات والأطعمة، دون أن تنسى إلقاء التحية على من تصادف فى دربها من العرب وغيرهم من أهل المنطقة بابتسامة مشوبة بالحزن.