وها نحن نعيش أيام وليالى شهر الصوم والإحسان والذى يجزى الله فيه عباده خير الجزاء، حين يسترجع المرء ذكرياته مع شهر رمضان إبان طفولته يشعر بمزيج من السعادة والحزن أيضا على أيام الطفولة التى قد ولت وراحت. كنا فى صغرنا نترقب ما ستعلنه لجنة الإفتاء برئاسة المفتى فى ليلة الرؤية التى يتم فيها استطلاع بداية هلال رمضان، ولكن قبل ذلك بأيام قلائل كنا نستعد لمجىء الشهر الكريم بشراء الفوانيس المصنوعة من الجريد والملفوفة بورق السوليفان وعمل الزينة من أوراق الكراسات القديمة الخاصة بسنواتنا الدراسية التى قد مضت نقوم بقص الأوراق ثم لصقها مع بعضها البعض فى شكل دائرى ونلصقها بالعجين، وذلك عن طريق خلط الدقيق مع الماء. كانت زينة بدائية لم تكن ظهرت بعد فى عهدنا الزينة والأعلام الصينية وكنا نقوم بعمل الزينة فى الشارع أو أمام أبواب منازلنا فيقوم الأهل بتشجيعنا على ذلك، وتقديم أكواب من مشروب الشاى وأنواع من البسكويت والفطائر لنا، ونشترى صبغة لونها أسود وأحمر حتى نقوم بتلوين الزينة وما إن ننتهى منها حتى نحضر السلم الخشبى ونقوم بدق المسامير فى الحوائط ثم نعلق الزينة بها أثناء ذلك كنا نستمتع بسماع الأغانى الرمضانية من داخل البيوت معلنة اقتراب حلول الشهر المبارك فكنا نستمتع بأغانى "وحوى يا وحوى - رمضان جانا - مرحب شهر الصوم مرحب.. إلخ من أغانى ألفت من أجل هذا الشهر الكريم، "ويأتى أول يوم فى رمضان ونصومه جميعا وكنا فى هذا اليوم نعانى من العطش والجوع ولكنا نتحمل ذلك حبا فى الشهر الكريم وحتى لا يسخر منا الأصدقاء إذا ما لم نستطع إكمال الصوم فيغنون لنا "يا فاطر رمضان يا خاسر دينك* كلبتنا السودة تقطع مصارينك" المهم قبل موعد الإفطار كان الجميع يجهز مدفعه للإطلاق حين تنير المئذنة ومدفع الإفطار عندنا عبارة عن مسمار كبير ضخم طوله حوالى 20 سم تقريبا نشتريه من أناس يقال إنهم جلبوه من قضبان السكك الحديدية القديمة ونقوم بثقبه من رأسه الضخم ثم نشترى علب الكبريت ونفرغ المادة المشتعلة فى الثقب، ثم نأتى بسيخ حديدى رفيع جدا وندخله فى الفتحة وعند سماع أذان المغرب أو إنارة مئذنة المسجد "السايح" فى ديروط وهى أعلى مئذنة حينذاك يشرع الجميع فى ضرب المدفع وقذفه ناحية الحائط، فيطلق صوتا عاليا جدا، وكأنه طلق نارى، بصراحة لم أكن أشترى هذا المدفع لأنى بصراحة كنت أخشى من صوته العالى أو أن ينفجر فى يدى وأنا ممسك به، ثم يقفز الجميع مسرعين نحو البيت كى يفطروا، نبدأ بشرب مشروب قمر الدين ثم نبدأ فى الأكل ثم نأكل فنأكل ونظل نأكل ونشرب حتى تمتلئ بطوننا وتكاد تنفجر من الأكل ولا يكفينا ذلك بل بعد قليل من إفطارنا نقوم بأكل الكنافة المحشوة بالزبيب والعجوة وجوز الهند فأنتم تعلمون لا رمضان ولا صوم بدون قمر الدين والكنافة والفوازير وصلاة القيام، فوازير رمضان كانت تذاع فى التليفزيون المصرى وساعتها لم يكن غير القناة الأولى، والثانية فلم تكن بعد ابتكرت الأطباق الفضائية (الدش)، وكنا نستمتع بالفنانة الكبيرة شيريهان واستعراضها الجميل وحركاتها اللولبية فى فوازير ألف ليلة وليلة والفنانة القديرة زوزو نبيل فى دورها المرعب العجوز أم منقار والتى كانت ترعبنا آنذاك، وبعد سماع الفوازير ننزل لصلاة العشاء وصلاة القيام التى غالبا ما يتم إخراجنا من المسجد بسبب الهزار واللعب بتاعنا ورش بعضنا البعض بالمياه مما يجعل المصلين يخرجوننا من المسجد.. كانت هناك بعض الألعاب التى نلهو بها فى ذلك الشهر الفضيل منها الأولى دلو، وستغماية، وصياد السمك، فى ذلك الوقت كان يلعب الجنسان البنات مع الأولاد وبراءة الطفولة تبدو على وجوههم ولم تكن شعارات منع الاختلاط بين الأطفال قد انتشرت بعد، ونظل نسهر فى الشارع منتظرين عم عبد الرازق المسحراتى، وكان كل منا يجهز "حُق" "فرد أحقاق" عبارة عن علب اللبن المجفف وعلب السمن النباتى بعد الانتهاء من استعمال ما بداخلها – ونحضر العصى والسيوخ الحديدية الرفيعة ونترقب وصول عم عبد الرازق من بعيد وحين يظهر نبدأ فى الإسراع إليه، ونسلم عليه ثم نسير من حوله وهو يضرب طبلته الكبيرة التى تذكرنا بطبلة الحرب الكبيرة فى فيلم عنتر بن شداد ويظل عم عبد الرازق ينشد "اصحى يا نايم * وحد الدايم" ونحن نردد وراءه ونقوم بضرب الأحقاق – علب الصفيح، فيستيقظ النيام من النوم ونعود إلى بيوتنا نشاهد المسلسل الدينى "لا إله إلا الله" كم كان مسلسلا رائعا يتحدث عن قصص الأنبياء، ثم نتسحر وننام منهكين من التعب وهكذا إلى نهاية الشهر العظيم، وحين يقترب الشهر من الانتهاء يكسو الحزن وجوهنا خاصة عند سماع أغنية "بدرى بدرى بدرى والأيام بتجرى". ولكن حين يشترى لنا الأهل الملابس الجديدة وإعطاء العيدية تعود إلينا البهجة والسعادة مرة أخرى. ومع آخر ليلتين فى شهر رمضان يأتى عم عبد الرازق يمر على المنازل كى يأخذ هبته من الناس فيأخذ من بعض الناس بعض المخبوزات من خبز وبسكويت وفطير والبعض الآخر يعطيه أموالا، ثم نقوم بتوديعه وهو يقوم بتوديعنا أيضا على أمل الرؤية فى رمضان القادم. يا لها من أيام كانت!.. رمضان كرييييم.