للثقافة المصرية خصوصيتها الباهرة, والآسرة في نفس الوقت, ومن هنا ففي العصر القديم عبد غزاة مصر آلهتها, وتزيوا بلباس الملوك المصريين وشعاراتهم, هكذا فعل الأسكندر الأكبر والبطالمة, كما أبدعت الثقافة المصرية في المسيحية مذهبا خاصا, بها يكون حائط صد يمنعها من الذوبان في الامبراطورية الرومانية, ويؤكد الهوية الوطنية من ناحية أخري. وهكذا فعلت الثقافة المصرية مع الإسلام, فقدمت القراءات الفريدة والجميلة للقرآن الكريم ولا يمكن أن أنسي في رمضان طفولتي, تلك المشاهد الإنسانية الفريدة التي ضيعناها كالسفهاء الذين لا يعرفون قيمة ما يمتلكون وهكذا فعلت الثقافة المصرية مع الإسلام, فقدمت القراءات الفريدة والجميلة للقرآن الكريم, تلك القراءات التي ربتنا علي الخشوع الجميل ونحن نستمع الي الشيخ محمد رفعت ومصطفي إسماعيل وعبدالباسط عبدالصمد وابوالعينين شعيشع, كما أثرت الثقافة المصرية مذاهب الإسلام الفقهية بالتسامح من المعاملات والأخلاق, ذلك التسامح الذي يعد أساسا للبيئة المصرية التي قامت علي التنوع الديني والثقافي والمهني وغيرها, كما أعطت للعبادات الإسلامية روحا ثرية, ومن هنا كان لشهر رمضان في مصر نكهة فريدة مميزة, لا تدع فرصة إلا واتخذتها إداة للمتعة والتميز, ففي عصر السلطان المملوكي خوشقدم, أو قدم الخير باللغة التركية, وبينما يجرب الجنود أحد المدافع إذ بالمدفع ينطلق في نفس وقت آذان المغرب, وتصور الناس أن السلطان يريد أن يؤذن بوقت الإفطار بصوت تسمعه القاهرة كلها, ومن ساعتها صار انطلاق مدفع الإفطار طقسا جميلا انطلق من مصر الي باقي البلاد الإسلامية, ويقال إن أحد سلاطين المماليك كان قد أعد نفسه في اليوم المتمم للثلاثين من شعبان لوليمة حافلة, ولكن بعد صلاة عشاء يوم التاسع والعشرين من شعبان أعلن قاضي القضاة رؤية هلال رمضان, وابتهج الناس وأضاؤوا الكلوبات والفوانيس وراح الأطفال يهتفون بكرة صيام علي ما أمر شيخ الإسلام, فراح جنود السلطان يطاردونهم من حارة الي حارة ويكسرون الفوانيس, ومع ذلك انتصرت إرادة الناس وأصبحوا صائمين. وفي طفولتنا اعتدنا استقبال شهر رمضان المعظم بعشرات الأغاني الجميلة الموحية والمعبرة, سنكتفي منها بأغنيتين, أولاهما: من كلمات: حسين حلمي المانستيرلي, والحان أحمد الشريف, وغناء: أحمد عبدالقادر, والتي تقول كلماتها: وحوي يا وحوي, إياحة/ رحت يا شعبان, جيت يا رمضان وحوينا الدار جيت يا رمضان وحوي يا وحوي/ هل هلالك والبدر آهو بان يلا الغفار, شهر مبارك وبقالوا زمان ماحلا نهارك بالخير مليان, وحوي يا وحوي/ جيت في جمالك سقفوا يا ولاد/ محلا صيامك فيه صحة وعال/ نفدي وصالك بالروح والمال, وحوي يا وحوي. وأغنية الفنان الكبير محمد عبدالمطلب: رمضان جانا وفرحنا به بعد غيابه وبقاله زمان/ غنوا وقولوا شهر بطوله أهلا رمضان/ بتغيب علينا وتهجرنا وقلوبنا معاك/ وفي السنة مرة تزورنا وبنستناك/ من بدري واحنا بنحسبلك ونوضبلك ونرتبلك اهلا رمضان. ومع نسائم الشهر الفضيل, تهفو قلوب الناس بفرح الي استقبال شهر المغفرة والرحمة والمودة ونزول القرآن, وكانت حياتنا في هذا الشهرتسير سيرا طبيعيا عاديا ككل شهور السنة, يقبل الصائمون علي الصوم بأرواح ظامئة الي رضوان الله دون أن يجعلهم ذلك يتخففون من العمل, فلم يكن الناس وقتها يقايضون الله علي حسن عبادته بالتخفف من العمل, ولم نكن نلمح في أعين الكبار أي مظهر من مظاهر العصبية, التي أصبحت السمة المميزة لصائمي هذه الأيام, بل علي العكس كان الصائمون يتميزون بالهدوء والرضا والسماحة, أما نحن الصغار, فقد كانت لفرحتنا أشكال عديدة, ومنها سعادتنا بما يدخل بيوتنا من مكسرات كالبندق وعين الجمل والزبيب والتين وقمر الدين, وهي لم تكن تدخل بيوتنا إلا من العام للعام, وعلي كل حال فهي لم تكن مبذولة لنا نحن الصغار بلا رقيب أو حسيب, كما كنا نفرح بالقطايف وصواني الكنافة والتي كانت تطهوها أمي أمامنا وبمشاركتنا فتزيد من رغبتنا فيها واستمتاعنا بها. وكان تشجيعنا ونحن صغار علي الصيام يأخذ أشكالا محببة, تهتم بشكل أساسي بالتحفيز والتشجيع, وتبتعد تماما عن الترهيب والتخويف, فأطايب الطعام للصائمين أولا, والسحور للصائمين فقط وهكذا, حتي نصوم فنحصل علي تقدير ورضا آبائنا وأمهاتنا, معلنين عن سعادتهم بانضمامنا الي عالم الكبار المكلفين. وكان طريقنا لشراء الفانوس البلدي المصنوع من الصفيح والزجاج الملون, من أبهج المشاوير وأحبها إلينا, وفي المساء نقضي معه ساعات حلوة ونحن نراقب ضوءه الخافت الملون في غرفنا المظلمة. ولا يمكن أن أنسي في رمضان طفولتي, تلك المشاهد الإنسانية الفريدة التي ضيعناها كالسفهاء الذين لا يعرفون قيمة ما يمتلكون, كان بين بيتنا بيت حامد أفندي مغيث وبيت عم داوود المسيحي مجرد عرض شارع ضيق, وقد أعتدنا ونحن عدد كبير من الأولاد والبنات من الأسرتين, أن نقوم بعمل غديوة بعد عودتنا من المدرسة كل يوم, ندخل لنغير ملابسنا ونعود وكل واحد منا يحمل طبقا مما صنعته أمي أو أم أولاد عم داوود من طعام, وعندما أقبل شهر رمضان كان من المحتم أن تتوقف الغديوة, ويأكل الأولاد منفردين, ولكن كانت المفاجأة السارة لنا أن الغديوة لم تتوقف, إذ قرر أولاد عم ديفيد بتشجيع من أمهم وابيهم طبعا, أن يؤجلوا غدائهم حتي آذان المغرب, موعد إفطارنا نحن أصدقاءهم المسلمين, كانت قماشة الوطن تسعنا جميعا, وكنا جميعا نؤمن بأن جوهر الأديان دعوة للمحبة والرحمة والإنسانية والفرح.