لاشك أن الوضع المقلوب الذى تعانى منه البلاد والذى كان أحد أهم أسباب الثورة لا شك أنه لن يستمر طويلا بعد المرحلة الانتقالية مهما حاول القائمون على الأمر تسكين الأوضاع المعيشية بمسكنات مؤقتة للعاملين بالقطاع الحكومى والقطاع العام فى الدولة، فالرواتب الاشتراكية التى سنت قوانينها فى حقبة مختلفة تماما عما نعيشه الآن لن تتماشى بحال من الأحوال مع شراسة الرأس مالية التى تفتك بنا جميعا. إن النظام الذى أسسه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر منذ الخمسينات بدءاً بالاتحاد الاشتراكى مرورا بقوانين الدعم ونظام القطاع العام وغيرها من النظم التى مازال العمل ساريا بها لا تصلح مع التوجه نحو الاستثمار والانفتاح الاقتصادى وتحرير التجارة فكيف لعامل يتقاضى بضع مئات من الجنيهات شهريا أن ينتج منتجا عالى الجودة ينافس المنتجات الأخرى فى الأسواق العالمية وكيف لموظف يتقاضى بضع مئات من الجنيهات لا تكاد تسد رمق أبنائه أن يرسو ويمكث فى مقر عمله حتى نهاية الوقت، والحل الطبيعى إذاَ هو تطبيق قوانين الحد الأدنى والحد الأقصى للأجور ليواكب الوضع المعيشى الرأس مالى، وليحقق مبدأ العدالة الاجتماعية التى قامت من أجله الثورة. على الجانب الآخر فإن تدبير ميزانية قانون الحد الأدنى ليس صعبا إذا طبق قانون الحد الأقصى، فالأموال التى ستقتص من طبقة مرتفعى الدخل تغطى وتكفى تعديل أجور محدودى الدخل إذا ما طبق قانون الحد الأدنى بالتوازى معه، لكن أحد أهم المعوقات لتطبيق هذين القانونين بالتوازى هى الشريحة المجتمعية المستفيدة حاليا من عدم تطبيق القانونينن فهناك شريحة كبيرة فى المجتمع يزيد دخلها عن الحد الأقصى الجديد وهى بالطبع قد تعودت على نمط معيشى معين يصعب معه التخلى عن تلك الأموال المغدقة عليهم والتى تعتبر مصا من دم الفقراء وضخا فى جيوب الأغنياء وبها يزداد الأغنياء غنى ويزداد الفقراء فقرا، ويزداد معهما الوضع المقلوب سوءا وتعقيدا ومن هنا سنجد الاضرابات الفئوية ظاهرة مستمرة طالما بقى الوضع كما هو عليه. إن الشريحة المجتمعية المستفيدة من الوضع الحالى كثيرة ومؤثرة وتمتلك كثيرا من أوراق اللعبة داخل البلد ولها أتباعها الذين تحركهم ولها أدواتها التى تستطيع بها أن تعوق مسارات التنمية، ومنها على سبيل المثال مدراء العموم فى شركات قطاع البترول مثلا ووكلاء الوزرات والمحافظين ولواءات الجيش والشرطة ورؤساء تحرير الصحف القومية وبعض المناصب فى قطاع الإعلام والإذاعة والتليفزيون وهيئة قناة السويس وشركات الطيران والموانىء البحرية والبرية والجوية، وقطاع السياحة والتعدين وغيرها من القطاعات المؤثرة، فهل تتنازل هذه الفئة عن تلك الأموال وتحاول تعديل نمط حياتها المعيشى ليتوافق مع الوضع الجديد، أم أن ما يتهافت عليه العوام هى أحلام وردية من الصعوبة بمكان أن تتحقق؟