بعد عامين من انطلاقه.. برلماني: الحوار الوطني خلق حالة من التلاحم    تموين الإسكندرية: توريد نحو 5427 طن قمح إلى الصوامع والشون    برلمانية: افتتاح مركز البيانات والحوسبة يؤكد اهتمام الدولة بمواكبة التقدم التكنولوجي    بعد تراجع قواته، قائد الجيش الأوكراني يكشف الوضع في الجبهة    قيادي في حماس ينفي الرد على مقترح إسرائيلي خلال المفاوضات بشأن غزة    التهديد الإرهابي العالمي 2024.. داعش يتراجع.. واليمين المتطرف يهدد أمريكا وأوروبا    عبد الواحد السيد يكشف سبب احتفال مصطفى شلبي أمام دريمز الغاني    الزمالك: لا عقوبات على مصطفى شلبي.. كان يشعر بالضغط    صحة قنا: 4 حالات مازالوا تحت الملاحظة في حادث تسريب الغاز وحالتهم على ما يُرام    حار نهاراً ومائل للبرودة ليلاً.. الأرصاد تحذر من طقس اليوم    مصرع 5 أشخاص في انقلاب ميكروباص بصحراوي المنيا    أول تعليق من زاهي حواس على حملة الهجوم ضده في الإعلام العبري    بعد طرح برومو الحلقة القادمة.. صاحبة السعادة تتصدر ترند مواقع التواصل الاجتماعي    تحرك عاجل من الخطيب ضد السولية والشحات.. مدحت شلبي يكشف التفاصيل    ميدو: لو أنا مسؤول في الأهلي هعرض عبد المنعم لأخصائي نفسي    بعد حركته البذيئة.. خالد الغندور يطالب بمعاقبة مصطفى شلبي لاعب الزمالك    عمرو أديب: أتمنى أن يحقق الزمالك البطولة ونعيش مرحلة جبر الخواطر    ميدو: سامسون أكثر لاعب تعرض للظلم في الزمالك    فراس ياغى: ضغوط تمارس على الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية للوصول لهدنة في غزة    "بلومبرج": الولايات المتحدة تضغط من أجل هدنة في غزة وإطلاق سراح الرهائن    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن بمستهل تعاملات الإثنين 29 أبريل 2024    "بحبها ومش عاوزه ترجعلي".. مندوب مبيعات يشرع في قتل طليقته بالشيخ زايد    إخلاء سبيل سائق سيارة الزفاف المتسبب في مصرع عروسين ومصور ب قنا    الأرصاد الجوية تكشف حالة الطقس اليوم الإثنين وتُحذر: ظاهرة جوية «خطيرة»    السفيه يواصل الهذيان :بلاش كليات تجارة وآداب وحقوق.. ومغردون : ترهات السيسي كلام مصاطب لا تصدر عن رئيس    ملف يلا كورة.. الزمالك يتأهل لنهائي الكونفدرالية.. وطائرة الأهلي تتوّج بالرباعية    فيديو.. سامي مغاوري: أنا اتظلمت.. وجلينا مأخدش حقه    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    هل مشروبات الطاقة تزيد جلطات القلب والمخ؟ أستاذ مخ وأعصاب يجيب    فهم حساسية العين وخطوات الوقاية الفعّالة    العناية بصحة الرموش.. وصفات طبيعية ونصائح فعّالة لتعزيز النمو والحفاظ على جمالها    «حياة كريمة».. جامعة كفر الشيخ تكرم الفريق الطبي المشارك بالقوافل الطبية    فيصل مصطفى يكتب: عجلة التاريخ    معاداة الصهيونية.. انقسام جديد يهدد النواب الأمريكي    مصطفى عمار: الدولة خلال 2024 تضع على عاتقها فكرة التفكير في المستقبل    وزير الاتصالات: 170 خدمة رقمية على بوابة مصر الرقمية    مصرع شاب في انقلاب سيارة نقل بالوادي الجديد    ضربة للمحتكرين.. ضبط 135 ألف عبوة سجائر مخبأة لرفع الأسعار    4 مليارات جنيه لاستكمال المرحلة الثانية من مبادرة حياة كريمة لعام 24/25    الاقتصاد الأمريكي يحتاج لعمال.. المهاجرون سيشكلون كل النمو السكاني بحلول 2040    الاستعداد للعريس السماوي أبرز احتفالات الرهبان    على مدار نصف قرن.. سر استمرار الفنان سامي مغاوري في العمل بالفن    ندوة حول تطور أذواق المستهلكين بالمؤتمر الدولي للنشر بأبوظبي    حدث بالفن| وفاة والدة فنان وأزمة بين بسمة وهبة وفنانة شهيرة وإيران تمنع مسلسل مصري من العرض    نجوى كرم تشوق الجمهور لحفلها في دبي يوم 3 مايو    عمرو أديب يكشف تفاصيل إصابته ب جلطة في القلب    بالصور.. الوادي الجديد تستقبل 120 طالبًا وطالبة من كلية آداب جامعة حلوان    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    دعاء في جوف الليل: اللهم جُد علينا بكرمك وأنعم علينا بغفرانك    3 حالات لا يجوز فيها الإرث شرعًا.. يوضحها أمين الفتوى    ربان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في مصر يحتفل بعيد الشعانين ورتبة الناهيرة    البابا ثيودروس الثاني يحتفل بأحد الشعانين في الإسكندرية    هل يؤثر تراجع الطلب على الأسماك في سعر الدواجن.. مسئول بالاتحاد العام للدواجن يجيب    مناطق روسية تتعرض لهجمات أوكرانية في مقاطعة كورسك    طريقة تحضير بودينج الشوكولاتة    محمد أبو هاشم: حجاج كثر يقعون في هذا الخطأ أثناء المناسك    في أحد الشعانين.. أول قداس بكنيسة "البشارة" بسوهاج الجديدة |صور    وظائف خالية ب الهيئة العامة للسلع التموينية (المستندات والشروط)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا نمزق نسيج الماضى والمستقبل؟
نشر في اليوم السابع يوم 01 - 01 - 2009

تبدأ الحكاية بالخبر الصدمة. خبر فى الصفحة الأولى من جريدة «الجمهورية» بتاريخ 21/11/2008 من ثمانية أسطر عنوانه: «حلول مؤقتة لأزمة سيارات غزل كفر الدوار 4.6 مليون جنيه لتجديد التراخيص 3 شهور». أما مضمون الخبر فهو: «عادت أكثر من 55 سيارة تابعة لشركة غزل كفر الدوار للعمل مرة أخرى، بعد توقف عدة أيام لعدم تجديد تراخيصها، لوجود مديونية على الشركة لصالح التأمينات الاجتماعية ،210 ملايين جنيه. وافق المهندس محسن الجيلانى، رئيس الشركة القابضة للغزل، على صرف 4 ملايين و600 ألف جنيه لسداد حصة التأمينات الاجتماعية لمدة ثلاثة شهور اعتبارا من 13 الجارى. تسببت الأزمة فى غياب العمال المقيمين بالإسكندرية والمناطق النائية بكفر الدوار عن العمل، واضطرت الشركة لنقل العمال بسيارات مؤجرة». انتهى الخبر.
فى الخبر إذن إدارة وعمال وآلات ومصانع وشركة، كانت لعقود طويلة إحدى درر الصناعة المصرية. صناعة هى بذاتها الأقدم والأعرق فى مصر والأكثر استخداما للعمالة.
كفر الدوار ذاتها استمرت كإحدى قلاع الصناعة المصرية لأكثر من سبعين سنة. وبينما المدينة تضم 4 شركات كبرى و46 مصنعا، فإن نسبة البطالة بين أيديها العاملة تجاوزت سبعين بالمائة مؤخرا، وعمالها المعطلون جاوزوا 25 ألف عامل. أما إذا تحدثنا عن صناعة الغزل والنسيج المصرية بعمومها فإن تحولها من قلاع حصينة (32 شركة) إلى خرابات متلاحقة هو بالضبط ما جعل النقابة العامة لعمال الغزل والنسيج، تصدر قبل سنة تقريرا بعنوان «أنقذوا صناعة النسيج أوأعلنوا وفاتها». هذا هو أيضا ما جعل مصباح قطب ينشر (جريدة الأهالى 10/5/2006) تقريرا صحفيا عما جرى لكفر الدوار واختار له عنوانا إنذاريا هو «قلعة صناعية تحولت إلى خرابة».
من يقرأ تلك التقارير على ضوء الحقائق المؤكدة سابقا، لا بد أن يشعر مثلى بالصدمة. فصناعة الغزل والنسيج فى مصر عمرها يتجاوز سبعين سنة. وسواء بدأنا بالمحلة الكبرى أو بكفر الدوار أو بشبرا الخيمة، فإن المصريين جيلا بعد جيل درسوا فى صباهم، أن الاحتلال الإنجليزى فى مصر كان حريصا على أن تظل مصر دولة زراعية، وحريصا بدرجة أكبر على أن تستمر مصر فى زراعة القطن طويل التيلة الذى تتميز به، لكن بشرط أن تصدره قطنا خاما لتحوله مصانع مانشستر فى انجلترا إلى غزل ومنسوجات، تبيعها وتصدرها بأضعاف أضعاف ثمن القطن الذى حصلت عليه من مصر.
المصريون جيلا بعد جيل يعرفون أيضا أن طلعت حرب أقام «بنك مصر» استثمارا للمشاعر الوطنية المصرية بعد ثورة 1919 فى مجال الاقتصاد، وكان هدفه هو ترجمة الوطنية السياسية إلى وطنية اقتصادية. وهكذا، بودائع المصريين فى بنك مصر، أقام طلعت حرب سلسلة من الشركات متعددة النشاط، كان فى طليعتها شركة المحلة الكبرى للغزل والنسيج، ثم فى كفر الدوار أيضا بالمشاركة مع آخرين وهكذا. وحينما أصبح تصنيع مصر هدفا عاجلا بعد انتهاء الاحتلال الانجليزى فى 1956، كان طبيعيا أن تشمل الخطة الأولى تطويرا وتوسيعا وإضافة لصناعة الغزل والنسيج. أولا كان هذا استثمارا لجودة وتميز القطن المصرى. وثانيا لخلق عشرات الآلاف من فرص العمل المطلوبة بشدة، لفتح أبواب الرزق الحلال أمام الشباب. وثالثا لتوسيع موارد الاقتصاد المصرى، حتى يصبح قادرا على تمويل الخدمات الجديدة: التعليم المجانى وشبكات الكهرباء والرعاية الصحية وشبكات الطرق والكبارى.. إلخ.
هكذا جرت إقامة قطاع عام والتوسع فيه اختصارا للزمن، وتعويضا عما فات ،ولحاقا بعصر تلعب فيه الصناعة دورا أساسيا فى نهضة الأمم. جزء أساسى من كل هذا كان صناعة الغزل والنسيج. وأصبحت الشركات جميعا تسدد الضرائب وتدفع الجمارك، وتشترك فى التأمينات ،وتتيح الأجور المرتفعة، والخدمات المعقولة لعشرات الآلاف من العمال. وبعد أن تحتجز الجزء المناسب من أرباحها للصيانة والتوسعات المستقبلية تسلم الدولة صافى أرباحها أولا بأول.
بالتخطيط السليم والإدارة الخبيرة تحول مصنعا الغزل والنسيج فى المحلة الكبرى سنة 1956 مثلا إلى 8 مصانع للغزل و14 مصنعا للنسيج و8 مصانع للملابس الجاهزة و4 مصانع للقطن الطبى، وقطاع تجهيز يقوم بتجهيز مليون متر يوميا، والشركة إجمالا تستهلك يوميا 140 طن غزل ،وهو ما يوازى 3 أضعاف ما تنتجه كل مغازل القطاع العام والخاص يوميا. توسعت الشركة لتصبح مساحة أراضيها 350 فدانا، منها 70 فدانا مساكن و120 فدانا للمرافق، بخلاف الخدمات المتنوعة للعاملين فيها، بما فى ذلك مطعم ضخم لتقديم الوجبات الغذائية للعاملين بأسعار رمزية ثم خدمات صحية وتعليمية و.. و.. كان هذا مجرد نموذج متكرر فى الصناعات المصرية الأساسية الأخرى.
ماذا جرى بعد هذا كله، لكى تصدر النقابة العامة للغزل والنسيج دراسة تنشرها الصحف بعنوان: « الحكومة دمرت صناعة الغزل والنسيج وشردت 150 ألف عامل» كما فى جريدة «البديل» فى 25/11/2007؟ ماذا جرى حتى تتحول شركة المحلة الكبرى للغزل والنسيج من الربح إلى الخسارة، وينكمش عدد العاملين بها من 44 ألفا فى سنة 1972 إلى 26 ألفا فى 2008؟ ماذا جرى حتى تتوالى خسائر شركة كفر الدوار للغزل والنسيج ويصل معها الخراب إلى مستوى العجز عن تجديد رخص السيارات التى تنقل العمال إلى المصانع؟ ثم قبل هذا كله: ماذا جرى لكل هذه الصناعة العريقة التى استمرت مصر متفوقة بها، وسابقة فيها تاريخيا لعشرات السنين؟ وأيضا.. ماذا جرى للقطن المصرى الذى تعتمد عليه هذه الصناعة، بحيث تراجعت المساحة المزروعة قطنا من مليون فدان فى سنة 1990 إلى 300 ألف فدان فى سنة 2008 لتصبح هذه هى المساحة الأقل منذ 120 سنة؟ وهل نحن نتقدم أم نتراجع؟ نضيف صناعات جديدة إلى ما تركه لنا آباؤنا أو نخرب صناعات ناجحة قائمة، فنسد أبواب الأمل والرزق أمام أولادنا؟
الأسئلة عديدة والإجابات غائمة ومراوغة. لكن نقطة البداية كانت المشورة المسمومة الواردة إلى مصر رأسا من أمريكا.. سواء مباشرة أو من خلال البنك الدولى وصندوق النقد الدولى. النصيحة هى اقتصاد السوق وتحرير التجارة. من زاوية اهتمامنا هنا، وحسب دراسة النقابة العامة لعمال الغزل والنسيج، فإن: «أول مسمار ضخم فى نعش صناعة الغزل والنسيج المصرية، كان قرار الحكومة فى سنة 1995 بتحرير تجارة القطن». طبعا غطاء العسل هنا كان: لماذا لا يحصل الفلاح المصرى على ثمن للقطن يتماشى مع الأسعار العالمية؟ أما السم الهارى فهو: إن هذا سيخرب الأساس الاقتصادى لكل صناعة الغزل والنسيج.
هذا هو ما جرى فعلا. فشركة المحلة مثلا كانت تستهلك سنويا مليون قنطار قطن . وفجأة اعتبارا من سنة 1995 أصبح عليها أن تشترى القطن بزيادة مائة جنيه، بما يحملها مائة مليون جنيه إضافية قابلة للزيادة سنة بعد سنة. وحينما صرخت الشركات كلها قالت لهم الحكومة: ابحثوا عن قطن أرخص. هذا يعنى استيراد قطن قصير التيلة من الخارج لأنه الأرخص. هنا يصبح الخراب مزدوجا. فالفلاح المصرى لم يعد يجد من يشترى منه القطن بسعره العالمى، والشركات نفسها بدأت آلاتها تتعطل لأنها مجهزة للتعامل مع القطن طويل التيلة وليس أى نوع آخر.
زاد من الخراب، ومرة أخرى حسب المشورات المسمومة إياها، أنه اعتبارا من سنة 1991، بدأت الحكومة تستولى بالكامل على كل أرباح شركات الغزل والنسيج، بما فى ذلك اعتمادات الصيانة والتحديث والتوسع. أما إذا أرادت الشركة ضخ استثمارات جديدة فعليها بالاقتراض من البنوك التجارية، وبأسعار الفائدة السائدة. وحسب محسن الجيلانى رئيس الشركة القابضة للغزل والنسيج فى تصريحات صحفية مؤخرا (البديل 27/12/2008) فإنه أصبح مفهوما منذ 1991 أن وقف الاستثمارات الجديدة فى شركات القطاع العام هو مقدمة لبيعها وخصخصتها.
من باب حرية التجارة واقتصاد السوق، أصبحت السياسات الجديدة المفاجئة إذن تؤدى عمليا.. إما إلى بيع الصناعات الرابحة بسعر التراب.. أو خنق الصناعات الباقية لتصبح متصلبة الشرايين، فتصفى أو تباع بما هو أقل من التراب. وحينما فتحت الحكومة المصرية الأبواب لاستيراد أقطان قصيرة التيلة باعتبارها الأرخص من القطن المصرى فوجئت الشركات بعملية إغراق شاملة. بمعنى أن الهند أو اليونان أو أوزبكستان مثلا، تصدر قطنها إلى مصر بأقل من سعره داخل أسواقها هى. وحينما صرخت الشركات المصرية للحكومة من هذا الغش فى المنافسة، استمرت الحكومة تراوغ فى حماية الصناعة المصرية لمدة سنة، ثم أصدرت قرارا بفرض رسوم إغراق على القطن المستورد. لكن القرار جرى إلغاؤه بعد ثلاثة أيام فقط حسب ما كشف عنه رئيس شركة المحلة.
وهكذا ففى كل الحالات أصبح محكوما على الشركات المصرية بالخسارة عمدا أو جهلا. فإذا اشترت القطن المصرى ترتفع تكلفتها وتعجز عن المنافسة. وإذا اشترت قطنا مستوردا فقدت ميزتها الأساسية عن الدول الأخرى، فتخرج أيضا من المنافسة. فوق هذا كله ومرة رابعة ،حسب الشعار المضلل بتحرير التجارة، خفضت مصر الرسوم الجمركية على الأقمشة المستوردة . وحينما توسعت فى إقامة المناطق الحرة أصبحت تلك المناطق منافذ صريحة لتهريب الأقمشة الأجنبية إلى الداخل بلا أى رسوم أصلا، فتطرد الإنتاج المصرى - قطاعا عاما وخاصا- من سوقه الطبيعى داخل مصر. وقد ذهلت مما قرأته على لسان محسن الجيلانى، رئيس الشركة القابضة فى 27/12/2008 حيث يقرر أنه أصبح لدينا داخل مصر 18741 منطقة حرة. من خلال تلك المنافذ، يقوم الموردون بإدخال ما يشاءون من بضائع وسلع معفاة من أية رسوم أو ضرائب. بالطبع هذه ليست مسئولية الدول الموردة، ولكنها مسئولية مصر أساسا، لأن حكومتها وضعت سياسة مليئة بالثغرات: «نحن نطالب بالتغيير وتضييق الخناق على التهريب لكن ليس هناك من صدى لكلامنا» حسب الجيلانى.
فى الخلاصة يقرر رئيس الشركة القابضة أنه فى سنة 2007 وحدها بلغت خسائر شركات الغزل والنسيج فى القطاع العام 1700 مليون جنيه بدون الفوائد، وينتظر أن ترتفع إلى 2000 مليون فى سنة 2008، جزء كبير منها فوائد متأخرة. وبينما أسقطت الحكومة مئات الملايين من ديون الكبار الذين نهبوا البنوك، فإنها مع شركات القطاع العام تحديدا، ترفع شعار الصراط المستقيم.
تلك الأرقام الصماء لا تعنى فقط خرابا فى الاقتصاد المصرى. تعنى أيضا خراب صناعات عريقة، وخراب بيوت عمال مهرة وذوى خبرة، يستعصى عليهم فهم هذا الذى يجرى. بالنتيجة توالت الشكاوى بلا جدوى. بعدها الاحتجاجات ثم الإضرابات و.. و..
ذات يوم نشرت الصحف فى 8/5/2006 تغطية موسعة لزيارة غير مسبوقة قام بها ثلاثة وزراء إلى مصانع الغزل والنسيج بكفر الدوار. العناوين كانت: «وزراء الاستثمار والتجارة والصناعة والقوى العاملة: إعلان برنامج الرئيس لتحديث منطقة كفر الدوار للغزل بإشراف رئيس الوزراء، تخفيض المديونيات.. الأولوية لإعادة هيكلة الشركات.. بيع الأصول غير المستغلة، 375 مليون جنيه استثمارات عاجلة للشركات الأربع».
فى الزيارة خرج عامل أصله من قنا وعمره 56 سنة ليقول: «هذه الشركة كانت مربيانا ومعلمانا ومجوزانا ومحججانا، ودلوقتى علشان تدخل مصنع الحرير الساعة 8 بالليل، لازم يكون معاك سلاح أو شومة لأنه فيه ديابة وثعابين». عامل ثان لفت أنظار الصحفيين المرافقين إلى المسرح المغلق فى شركة الغزل الرفيع، والسينما المغلقة قريبا منه، وملعب كرة القدم الذى تحول إلى مجموعة من الحفر ،ومساكن المهندسين التى تردت أوضاعها من الإهمال. عامل آخر من بين ال 18 ألفا بتلك الشركات، استحلف الصحفيين لزيارة المخازن حتى يشاهدوا إنتاجا معبأ فى كراتين وصناديق منذ 12 سنة وأصبح راكدا من وقتها. عمال آخرون صمموا على أن يرى الوزراء الثلاثة بأعينهم ماكينات غزل ونسيج تم شراؤها واستيرادها فى سنة 1980، لتظل فى صناديقها من يومها بعد أن تخلت الإدارات التالية عن أى تحديث أو تطوير. و.. و.. و.. فأما رشيد محمد رشيد وزير الصناعة والتجارة ،فكل ما قاله يومها هو إنه شديد الحزن لما يراه، خصوصا أنه قضى تدريباته الدراسية فى هذه المصانع تحديدا حينما كان طالبا بكلية الهندسة، ووقتها كانت تصدر إنتاجها إلى العالم كله. وللذكرى صور الوزير أحد العنابر المتدهورة بكاميرا تليفونه المحمول. وزير الصناعة يصور للذكرى.. ليس إلا.
وأما وزير الاستثمار محمود محيى الدين، فقال يومها: هذه الأوضاع القائمة غير مقبولة، وهو لن يضيع وقته فى تحديد المسئول عنها لأنه سيشرع فى الإصلاح والبناء من جديد. وسرعان ما تكشفت وتوالت خطوات ذلك الإصلاح الموعود.
فأولا: فى 23/5/2007، قامت شركة كفر الدوار للغزل والنسيج بأوامر من وزير الاستثمار، ببيع مساحة 263 ألفا و700 متر مربع من أراضيها. البيع تم من غير مزاد وبالأمر المباشر وبسعر 200 جنيه للمتر، بينما سبق للشركة أن باعت أرضا مجاورة بسعر 1230 جنيها للمتر. وبحسبة بسيطة تكون الشركة المطلوب إصلاحها قد خسرت من جديد أكثر من مليار جنيه. وحينما تقدم زكريا الجناينى نائب كفر الدوار بسؤال فى مجلس الشعب إلى وزير الاستثمار، قيل له إن الشركة باعت الأرض إلى الهيئة العامة للتنمية الصناعية التابعة لوزارة الصناعة والتجارة، وهى التى ستتصرف تاليا فى الأرض كما تشاء.. ولمن تشاء.
ثانيا: قام محمود محيى الدين وزير الاستثمار فى مطلع ديسمبر الجارى بزيارة خاطفة إلى كوريا الجنوبية استغرقت يومين ونصف اليوم، ونشر الصحفيون المرافقون له بعدها أنه نجح فى التفاوض مع الكوريين لإقامة أربعة مصانع فى مصر لإنتاج الملابس الجاهزة.
ثالثا: أضيف هذا إلى ما سبق لرشيد محمد رشيد وزير الصناعة والتجارة أن أعلنه، عن أول منطقة صناعية صينية فى مصر غرب خليج السويس . علما بأن بدعة المناطق الحرة هذه تعنى عمليا أن الشركات العاملة فيها معفاة من الضرائب والتأمينات ،ومن حقها تشغيل عمال أجانب فضلا عن حقها فى تحويل أرباحها إلى بلادها أولا بأول. بنفس الأسلوب حصلت شركات نسيج تركية على مليونى متر مربع فى «6 أكتوبر» لتعمل فيها بأسلوب وامتيازات المناطق الحرة.
رابعا: فى 27/12/2008 أعلن الوزير رشيد محمد رشيد أيضا عن منطقة عالمية لصناعات النسيج باستثمارات مليار جنيه، مؤكدا «أن هناك إقبالا كبيرا من كبريات الشركات العالمية للملابس الجاهزة لإنشاء فروع لها فى مصر». فى نفس العدد تحقيق صحفى بعنوان «قبل أن تدخل صناعة الغزل والنسيج غرفة الإنعاش.. أصحاب المصانع يصرخون: المنافسة غير العادلة مع المنتجات الأجنبية والتهريب وقلة الأقطان أزمتنا». فى هذه المرة كان المستغيثون أصحاب مصانع نسيج من القطاع الخاص.
فى نفس اليوم، وبجريدة »البديل« كان رئيس الشركة القابضة للغزل والنسيج يعلن: «نية الحكومة المصرية تتجه لغلق شركات الغزل والأمر مش محتاج ذكاء ولا مفهومية».
لقد عدت إلى تصريح مدو سابق لوزير الصناعة والتجارة فى 8/7/2008 يقول فيه: «الحكومة لن تسمح بخروج صناعة الغزل والنسيج من مصر». هى لن تخرج. فقط ستخرج أرباحها من أرض مصر لتضيف إلى اقتصاد وقوة دول أخرى.. وسيخرج عشرات الآلاف عندنا إلى سوق البطالة.. وستخرج العقول من رؤوسنا عجزا عن فهم هذا الذى يجرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.