انتهت القصة وذهب كل فريق إلى حال سبيله، من رأى فى حذاء المنتظر العراقى انتصارا للأمة أو على أقل تقدير عقوبة أدبية مستحقه للمحتل، ومن رأى أن الفعل شنيع ووضيع ولا يخرج من رضيع. هدأت زوابع المقالات أو ينبغى أن تهدأ لندخل فى تحليل المضمون والإجابة عن السؤال الكبير: لماذا؟ حاولت فى مقالى السابق "بالجزمة" أن أقدم إجابات لكن الوقت لم يسعفنى، ولم تكن الصورة قد اكتملت، وها هى الآن قد اكتملت بمواقف الرافضين لفعلة (المنتظر) شكلا وموضوعا. يقول علماء النفس، إن الإنسان أى إنسان يحتاج إلى نوع ما من التقدير أو الاحترام أو الشعور بالأهمية، وفى علم الإدارة هناك ما يعرف بالذكاء الوجدانى (أو العاطفى) Emotional intelligence ، كما أن هناك ما يعرف بالذكاء الاجتماعى Social intelligence والأخير معنى ببناء علاقات اجتماعية متوازنة مع الناس فى ضوء احترامك لهم كبشر أولا وأخيراً. أما الذكاء الوجدانى فخلاصته أن يتعين على من يتولى شئون الناس سواء كان فى أسرته أو شركته أو مؤسسته أو جمعيته أو جماعته أو وزارته أو العالم كما فى حال أمريكا – ما يلى: إدراك أن للناس مشاعر وعواطف متمثلة فى: - أن يعرف حق المعرفة أن للناس متطلبات أخرى غير الأكل والشرب والسكن والعمل. - أن الشعور بالأهمية هو طبيعة بشرية يستحيل إنكارها. - أن الشعور بالاحترام والتقدير أو ما يعرف بال self esteem هو سنام الاحتياجات البشرية وأعلى سلمها. - أن يقدر هذه المشاعر، وإن لم تكن ضمن ثقافته العامة. - أن يتعامل مع هذه المشاعر باحترام وتقدير وإن اختلف معها. وعلى سبيل المثال فإنه فى زمن الحروب يكون الهدف دائما هو الانتصار على الخصم، أما إهانته فهى آخر ما يجب أن يفكر فيه المحاربون، لأن الحرب لها هدف واحد هو إجبار الطرف الثانى على الانصياع للسلم، وباختصار فالحرب وسيلة من وسائل السياسة، والسياسة فى النهاية هى فن التعايش مع الناس وليس إبادتهم. ويمكن لرئيس دولة عظمى أن يجبر الآخرين على احترام إرادة دولته ورغبتها فى ضمان مصالحها فى إطار من الود والاحترام وتفهم كامل لمشاعر الشعوب ورغباتها، ولكن قارن كل هذا بما فعله بوش ناهيك عن غزو العراق دون دليل ونذكر منها على سبيل المثال، استخدام قواته الاهانة المفرطة بدءاً من اعتقال وقتل النساء والأطفال وإهانة الأسرى فى سجن أبو غريب، واقتحامها للمساجد، لا ننسى أن بعض جنوده داسوا بأقدامهم، ومنهم من مزق المصاحف فى أبو غريب و جوانتانامو، والأسوأ أن القوات الأمريكية اعتمدت مبدأً رسخه (ريشارد بيرل) المعروف بأمير الظلام فى كتابه الذى ألفه مع نتانياهو رئيس الوزراء الصهيونى الأسبق (معا ضد الإرهاب) وهو مبدأ (أهن خصمك) وتساءل قائلا: إذا سألوك عن كرامة الخصوم (العرب) فلا مكان للكرامةForget about dignity وتبقى المصيبة الأكبر والتى تمثلت فى تجسس بوش على جميع رؤساء وزراء العراق الذين شغلوا المنصب مثل إبراهيم الجعفرى وحتى المالكى رئيس الوزراء الحالى، ولقد ذكر فريد زكريا –رئيس تحرير نيوزويك ذلك غير مرة فى مقالاته، ولم تنف وكالة الاستخبارات الأمريكيةالخبر، لكن الرسالة كانت هى أن أمريكا تأكدت من حسن نية المالكى. وأعود مرة أخرى إلى قصة نشرها فريد زكريا عن عجرفة الدبلوماسيين الأمريكان فى تعاملهم حتى مع نظرائهم الغربيين، مثل بريطانيا التى وجد وفدها المفاوض نفسه أمام لائحة طلبات فى اجتماعات الفريقين للتنسيق على غزو أفغانستان، بل لم يسمح الأمريكيون للبريطانيين بمجرد مناقشة ورقة الطلبات. هذه الطريقة هى التى دفعت الأوربيين مثل ألمانيا التى خرج وزير خارجيتها السابق عن شعوره قبل الحرب على العراق موجها كلامه لرامسفيلد ( الحرب... الحرب، لا يمكننا ببساطة أن نقتنع بالحرب، وإذا أنا كنت غير مقتنع بالحرب فكيف أقنع شعبى بالحرب)، إنه الانفجار من الضغط والرغبة فى تنفيذ الأوامر مع احتقار الآخرين، فإذا كان الحليف يعامل مثلَ هذه المعاملة – دون مراعاة لمشاعره فما بالك بالخصوم ! صحيح أن اللغة والحوار العنيف أحيانا كانا سيدا الموقف، لكن شابا فى ريعان شبابه مثل (المنتظر) يمتلك من قوة الغضب ما لا يملكه آخرون بالتأكيد قد يكون معذورا حين يستخدم طريقة وحيدة متاحة أمامه للتعبير عن غضبه تجاه محتل لبلده جاء بحجة التحرير فوضع كل من فيها تحت قدميه. أتصور أن ردة الفعل طبيعية، وأكاد أجزم أن رؤوساً كبيرة فى عالم السياسة حول العالم كانت سعيدة وسعيدة للغاية، وهى ترى ما يحدث لبوش، وأقول لكم بصراحة إنه لولا المصلحة المتبادلة والمنافع المشتركة وهى لا تخفى على أحد، لأعلن أولئك الذين كتبوا معارضين لما فعله (المنتظر) تأييدهم له. التعبير عن الذات أمر مرغوب ومطلوب، ومن أهم سمات القائد الذكى أنه يسمح للآخرين بالتعبير عن أرائهم والاختلاف معهم، لا بل إن علماء الاجتماع اليوم يرون أنه، وكلما اقتربت صورة القائد وأصبحت أقرب للملائكية كلما كان خطره أعظم لذا ينصحون القادة بأن ينزلوا إلى مرتبة البشر. فى عالم البشر الحكام والناس سواسية، وفى عالم التأليه والتقديس والتخويف بالقوى العظمى والضغط النفسى المهول، تفقد الآلهة المزيفة مكانتها ويضطر الناس إلى رجمها بالطوب أو بالأحذية أحيانا. يا حكام العالم انزلوا إلى الناس يحببكم الناس.. يحملكم الناس فوق رؤوسهم.