يدور الحوار السائد فى المجتمع اليوم عما نأمل أن يكون لنا حكومة تقبل التنوع والتعدد ولا تمييز بين أفرادها على أى أساس كان، ولكثرة الفعاليات اليومية والتعبيرات الكثيرة عن شكل هذه الحكومة وعن حلم الديمقراطية فى مصر فضلت أن أعرض لكم موضوعا عن الحكومة وأشكالها بالعالم ومراحل تطورها منذ القرن التّاسع عشر. إن الأشكال القياسيّة العلمانيّة للحكومة التى حدّدها أرسطو هى الأوتوقراطية والأرستقراطيّة والديمقراطيّة. وبقصد التذكير فقط للتعريف بهذه الأشكال الثلاثة، وباختصار، فإنّ "الأوتوقراطيّة" هى حكومة الشخص الواحد أو الهيئة الواحدة، ذات قرار مطلق غير خاضع لسلطة آخرين أو مراقبتهم، و"الأرستقراطية" هى حكومة من القلائل المختارين يتصرفون بصورة مستقلّة عن تفكير الشعب وآرائه، وذلك استناداً إلى امتيازات خاصة استثنائيّة يتمتعون بها؛ و"الديمقراطيّة" هى حكومة يختارها الشعب من الشعب وإلى الشعب، هكذا يتضّح أن مركز السلطة ينتقل على مدى الأشكال الثلاثة للحكومة من الكيان الفردى أو الواحد، إلى القلائل المختارين، وأخيراً إلى الشعب. وبالرجوع إلى القرن التّاسع عشر، وفى إطار هذه الأشكال الثلاثة للحكومة نجد أنّ الأوتوقراطيّة والأرستقراطيّة كانتا السّائدتين فى العالم، بما فى ذلك فى البلدان الدّينية المنهج مثل تركيا. بدأت ممارسة الديمقراطيّة، وهى كلمة إغريقيّة، منذ قديم الزمان، أى من حوالى القرن السادس قبل الميلاد، أوّلاً فى بلدان الإغريق واستمر العمل بها حتى فى فتوحات إسكندر الأكبر، متّخذة فى كل عصر صور مختلفة فى تطبيق المبدأ، ألا وهو إشراك الشعب بطريقة ما فى أخذ القرار. كان "الشعب" فى البداية جزءا مختارا من المواطنين، مثل أهل المدينة الأصليين أو جنس معيّن أو طبقة معيّنة. المواطنة كما نعرفها اليوم لم يبدأ العمل بها إلاّ فى القرن التّاسع عشر. تبلورت الديمقراطيّة إلى صيغتها الحديثة بداية من القرن التّاسع عشر وبالذات بعد الثورة الفرنسيّة، وذلك عندما بدأ العمل بالأحزاب السّياسية فى أوربا والتّنافس بينها للحصول على أصوات النّاخبين. وبادرت أستراليا خلال العقد السادس من القرن التّاسع عشر بفرض السريّة على التصويت. وفى 1870 أدخلت الولاياتالمتحدة تعديلاً على الدستور برفع التمييز فى الانتخاب، وفى 1893 بادرت نيوزيلندا بتعميم حق الانتخاب على النساء بعد أن فرض تعميمه على الرجال فى 1879. بذلك يمكننا القول إن الديمقراطيّة الموجودة اليوم نمت من بذورها التى زرعت فى القرن التّاسع عشر. ثم حدثت الحرب العالميّة الأولى فى العقد الثانى من القرن العشرين والتى أفضت إلى نصر للديمقراطيّة حيث احتفظت فرنسا بالديمقراطيّة، وانسحبت الديمقراطيّة على ألمانيا، وشهدت روسيا بعض الأشهر من الديمقراطيّة تحت الكسندر كارنسكى (Alexander Kerenski)، ثم فقدتها بعد وقوعها فى أيدى لينين. وفى أواخر العقد الثّالث وأوائل العقد الرّابع اجتاح العالم فترة كساد اقتصادى رهيب وبطالة مفجعة، عرفت باسم (The Great Depression). وأدّى هذا الوضع إلى تراجع فى الديمقراطيّة وقيام العديد من الدكتاتوريّات فى أوربا وأمريكا اللاتينية. ثم جاءت الحرب العالميّة الثانية 1939 إلى 1945، بالنصر للديمقراطيّة فى أوربا الغربيّة عدا جنوبها حيث بقيت إسبانيا والبرتغال تحت براثن الديكتاتوريّة، ودون وسطها وشرقها حيث استقرت أنظمة شيوعيّة. أمّا اليابان فكانت تمارس الديمقراطيّة منذ العشرينات، باستثناء فترة بدأت قبل الحرب العالميّة الثانية بقليل وخلال الحرب نفسها، حيث كان يحكمها قادة القوّات المسلّحة. ثمّ نشأت بدورها الهند كجمهوريّة ديمقراطيّة. فى السنوات الأخيرة من القرن العشرين تبدّلت السياسات فى أجزاء كبيرة من العالم، وأخذت الديمقراطيّة، بمؤازرة الرأسماليّة للسوق الحرّة المعروفة جملة بالعولمة، تزحف على تلك البلدان التى طرأ عليها التبديل، لتصبح الديمقراطيّة اليوم وفى بداية القرن الواحد والعشرين، النغمة التى يتغنى بها قادة جميع البلدان، بصرف النظر عن الفوارق الموجودة فى تطبيقها. فالديمقراطيّة المعروفة بالديمقراطيّة الليبرالية أو الديمقراطيّة الدّستوريّة كما تطبق بالولاياتالمتحدة وبلدان غرب أوربا، هى السائدة اليوم، ويسعى مؤيدوها وعلى رأسهم الولايات المتّحدة لتعميمها على البلدان النّامية كبيرها وصغيرها على حدّ سواء، على أساس أنّه أعدل نظام سياسى وأحسنهم احتراماً لحقوق الإنسان. والاستعراض المختصر لتاريخ الديمقراطيّة المذكور فى السطور السابقة لم يأت وروده بقصد سرد للتاريخ بالذات، خاصة وأنّه معروف، ولكن لتبيين ذلك التطوّر فى أشكال الحكم الذى يبدو أنّه بدأ فى القرن التّاسع عشر تحت تأثير قوّة ذاتيّة لإزالة تعدّد الأشكال ليحل محلّها شكل أساسى واحد يصبح بدوره النظام المطبّق فى جميع دول العالم. فالفكرة التى بدأت منذ أكثر من ستة وعشرين قرناً مضى، وفى مكان محدود من العالم، عالم الإغريق، وطبقت فى بدايتها فى مجالات مدن كبيرة بمقاييس ذلك الوقت وصغيرة بمقاييس عصرنا، أصبحت اليوم بعد مسيرة 2600 عام، وبعد تطوّرها ومرورها بدورات لا تحصى من الرقى والتدهور، النظام المرغوب من كل أهل العالم. إلاّ أن المهم ملاحظته هو أن الديمقراطيّة لم تأخذ صيغة عالميّة إلاّ فى القرن التّاسع عشر، لأن قبل ذلك لم يكن حق الانتخاب عاماً، بل كان التميّيز على أسس مختلفة منها المستوى الثقافى، أو المستوى الاجتماعى، أو اعتبارا للجنس أو العرق أو المعتقد. إن حلم الديمقراطية يتطلب من كل المصريين النظر إلى أمنا العظيمة مصر وكيفية بنائها على أسس الديمقراطية الذى سوف يحقق الرفاهية والعدالة الاجتماعية للجميع، وأن اتحاد المصريين جميعا من أجل هذا الحلم النبيل هو السبيل الوحيد للوصول إلى بر الأمان.