يعنى إيه كلمة وطن؟ جملة كثيرا ما كانت تقفز لذهنه وبها يأخذه عقله فى حوار طويل مع نفسه.. رجل فى خريف العمر تجاوز الستين.. يعيش مع زوجته التى تصغره بسنوات قليلة.. إنسانة طيبة مسالمة روتينية.. لا تتكلم كثيرا.. تخرج ابنه فى السنوات الأخيرة بعد هجرة أولادهما الواحد تلو الآخر. تخرج ابنه الكبير حازم فى كلية الهندسة.. كانت مدينة 6 أكتوبر حديثة العهد فى ذلك الوقت.. كان يعمل أكثر من اثنتى عشرة ساعة فى اليوم.. دخل عليهما يوما ليبلغهما أنه حصل على أوراق للسفر لأمريكا.. ذهب وتزوج ومن يومها وصلته بهم تقل حتى أصبحت صلة تهنئة بالأعياد والمناسبات. ابنه الأوسط منير كان متفوقا طوال فترة دراسته.. تخرج فى كلية الطب.. حصل على وظيفة بالجامعة.. جاءته منحة لتكملة دراسته بألمانيا.. مرت سنة بعد سفره.. فوجئا به يتزوج ويبلغهم بقراره أنه سيستقر هناك ولن يعود. ابنته الوحيدة سارة أخذها زوجها بعد زواجهما بشهور قليلة وذهب بها إلى محافظة بعيدة.. بعد مرور سنوات تباعدت زيارتهم حتى أصبحت علاقتهم فى الغالب مكلمات تليفونية للاطمئنان. منذ أن أحيل للمعاش لا يجد ما يفعله.. معاشه بالكاد يكفيه لحياة ألفها.. أصبح نادرا ما يخرج من المنزل.. الذهاب لأى مكان يكلفه الكثير.. قنع بقتل الوقت بمشاهدة التلفاز وقراءة الصحف وحواره القليل مع زوجته والطويل مع نفسه. تذكر يوما حديثه مع ابنه ولومه له بترك مستقبله فى الجامعة والهجرة.. بكلمات قاسية فى وضوحها وتجردها.. يا والدى أى مستقبل..؟؟ هل تعتقد أن هذه جامعات بحق..؟؟ إنها أماكن تمتلئ بنظام اللانظام.. تتشرب فيها النفوس مبادئ القهر وضياع قيم الحق والعدل.. رحلة تغلى النفوس خلالها وتبقى ساكنة حتى تأتيها الفرصة لتنطلق للانتقام وقنص واستغلال أية فرصة وأية منفعة. قال له لو كل شاب ترك بلده وفعل مثلك ماذا سيكون الحال..؟؟ استرسل بنبرته القاسية الجافة.. بلدنا مثل القطة التى تأكل أولادها..!! ألا تتذكر..؟؟ لقد حاربت وأصبت ومازالت تعانى رغم مرور السنوات.. ماذا فعلوا لك أو لغيرك..؟!! نزلت كلمات ابنه عليه كضربة مطرقة صلبة على رأسه.. ذكره بما طالما حاول أن يتناساه.. فشل لأن عقله لو نسى كانت الآلام تذكره بما كان. كانت القذائف تتناثر فى كل مكان وصوت إطلاق النيران ودوى المدافع يصم الآذان.. الدخان يغطى السماء والجثث والأشلاء فى كل مكان.. ساعات من قتال شرس.. شاهد العديد من زملائه وهم يسقطون شهداء.. سقط خط بارليف. اهتز بدنه وشعر بقشعريرة تجتاح جسمه كله.. كان الصوت يدوى فى الفضاء الله أكبر الله أكبر.. تقدموا بعدها.. كانت صوت صرير جنازير مئات الدبابات تعزف سيمفونية مهيبة.. كانت الأصوات تتداخل من انفجارات وصيحات وصرخات. وجد شيئا يصطدم به بقوة جعلته يقع على الأرض.. الضربة التى طالته على رأسه لم تجعله يشعر بأى ألم.. وجد نفسه فى سرير فى المستشفى العسكري.. استخرجوا شظية بجانب عموده الفقرى. توالت الأحدث بسرعة غريبة.. عدو الأمس أصبح صديقا.. بطل الحرب أصبح بطل السلام.. توقف المشهد على صورة طالما يتذكرها.. الرئيس ملقى على الأرض تغطيه الدماء وآخر يمد يدا مبتورة وهو فى حالة ذهول وعدة أشخاص يحيطون بنائب الرئيس ويأخذونه بعيدا. توارت سيرة بطل الحرب والسلام وعند أول ذكرى للانتصار كان الإعلام لا يتحدث إلا عن قائد الضربة الجوية.. اختزلوا الحرب والانتصار فيها وفيه..!! قال لنفسه وماذا فعلنا نحن..؟!! شعر بالمرارة والإحباط.. يومها أحس بآلام ظهره بشكل لم يشعر به من قبل. تتابعت أحداث لم يكن يتصور أن يعيشها.. تسلطت أسماء تحيط بها الشكوك والسمعة السيئة على مناصب الدولة.. انتشر فساد الذمم والضمائر.. أصبحت النفوس الآمنة تعيش فى صراع دائم وأصبح من يريد إن يعيش ويأخذ فرصته لابد أن يتحلى بأخلاق الذئاب.. انتشرت البلطجة الرسمية فتبعتها البلطجة الشعبية. حكايات وروايات عن تسلط أبناء الرئيس على أحوال البلاد واستعدادات لتوريث أحدهم رقاب العباد.. لاينسى يوم أن سمع خبر الحكم على سعد الدين الشاذلى بالسجن.. يومها عافت نفسه الطعام.. لاينسى يوم أن قرأ خبر قتل الأسرى المصريين بعد أن أجبروهم على حفر قبورهم بأيديهم.. تجاهل ولى أمر البلاد الحدث وكأنه لم يحدث..؟!! كان يشعر بالإحباط وهو يتابع أحداثا متلاحقة.. احتلال العراق وتقسيم السودان وفجر الظلم والبطش التى تمارسه إسرائيل وبلدنا فى حالة من الفرجة والصمت المريب. صحى يوما على أصوات اقتحمت عليه غرفته.. وجد جحافل من البشر يحملون الإعلام واللافتات.. تضاعفت أعدادهم فى دقائق معدودة.. صياحهم كالهدير.. ارحل..ارحل.. باطل باطل.. لم يشعر بنفسه إلا وهو ينزل إلى الميدان ويهتف مع الهاتفين.. كان بدنه يهتز وشعر بنفس القشعريرة التى سرت فى بدنه وهم يرفعون الأعلام فى سيناء.. شعر أنه استعاد نفسه التى تبعثرت منذ سنوات طويلة. وبينما الهتافات تتفجر كالبركان.. فجأة ساد الهرج والمرج وانعقدت الألسنة واتسعت العيون من الدهشة على مشهد وكأنه خيال.. أقتحم الميدان مجموعة كبيرة من أشخاص يركبون الجمال والخيل ويندفعون بين جحافل البشر.. لم يستطع أن يستوعب الأمر.. أتته ضربة من أحدهم أطاحت به.. اصطدمت رأسه بالأرض. حاول المحيطون به أن يعينوه على النهوض.. كانت عيناه تحلقان فى اللاوعى تنظران على دمائه ودماء زملائه المتناثرة على رمال سيناء وهو يتهاوى وأصابع يديه تنغرس فى الرمال.. كانت الهتافات مازالت تدوى عالية.. كفاية كفاية كفاية.. كل ظالم له نهاية.