الأشياء كثيرا ما تتبدى لنا مبهمة .. متخالطة .. نقضى أزمنة كى نفهم كنهها دون أن ندرى أن قيمتها فى عدم فهمها .. لتبقى الحقيقة دائما مبهمة .. لا نعرف عنها سوى أنها حقيقية وكفى .... سبعة أيام كاملة وأنا معتكف فى هذه الغرفة الهادئة .. فوق هذا السطح الواسع .. الذى يكشف لى تزاحم القباب والمآذن فى هذا الحى العتيق . أقضى طوال نهارى نائما .. أو بالأحرى أجبل جفونى على الإنسدال .. وعيونى على النوم والإسترخاء اختصارا لساعات اليوم المديدة . أقضى طوال الليل ساهما فى السماء وليلها السرمدى .. أسدد نظرى نحو الظلام الذى لا أرى غيره فى تلك السماء الشاسعة .. تمر ساعات وساعات .. لا أرى الا الظلام . حتى أخال أن الكون قد خلا الا منه .. أنا فقط والظلام .. الظلام وأنا .. وحدى فى هذا الكون الفسيح فى ظلامه السرمدى .. يخلو ذهنى من أى أفكار أو تصورات .. ما يعيدنى إلى الحياة .. لحظة الشك تلك التى تفرض نفسها بقوة لتقذف بى فى بحار الحيرة .. هى أنا حى أم ميت ؟ .. هل لى وجود فى هذا الكون ؟ .. بل هل هناك وجود لكون ؟! .. أهو شئ غير هذا الفراغ ؟ .. الذى أظننى أقع فيه (لا يقينا ) .. أهو شئ غير العدم ؟. ينقطع خيط بصرى الموصول بالسماء .. إلى نقطة معينة بها .. أغمض عينى بسرعة .. أتيح لها الوقت كى تعتاد رؤية الأشياء .. بعد أن امتلأت بالفراغ والسواد . أتذكر الطعام .. أذهب لإحضار الحقيبة البلاستيكية من خلف باب الغرفة .. فمنذ أن أتيت إلى هنا حرمت على نفسى الكلام والتواصل مع بنى البشر .. انقطع الإتصال بينى وبينهم .. لا يرانى فى خلوتى هذى الا عماد الشقرف دون أن أراه .. فقد نبهت عليه أن يأتى كل يوم ليحضر لى الطعام .. الحشيش .. ويعد لى نارجيلتى .. يجهز كل شئ .. دون أن يتفوه بكلمة واحدة , أو يند عنه صوت يخرجنى من عزلتى .. وحدتى .. صمتى . الذى صار عبادتى وقربتى فى هذا الكون الصامت الفارغ الخاوى . أصمت مع صمت الكون .. ويفرغ جسدى من العقل والروح لأتوحد مع فراغ هذا الكون .. أتقرب إلى الصمت بالصمت .. وأتزلف للفراغ بالخواء العقلى والروحى .. أصبح جزء من هذا العدم .. حتى يصرعنى الشك .. يختطفنى من يقين الصمت ومن يقين الخواء والموت .. إلى يقين الحياة التى لا أدرك معناها .. أمر بلحظات الشك .. آكل ولا أدرى أهذا واقع وجودى .. أم أن كل هذا هو محض خيال .. وأنه لا وجود للأجساد ولا الأشياء .. كل هذا هو عبث الخيال . يملأ الحشيش خواء رأسى .. يثقلها .. ينقلها لليقين بوجود الحياة .. ولكنه يفشل فى تفسير معناها .. ومن يقين الوجود .. يبدأ الشك .. أكانت حقا ؟! .. أكان حقا ؟! .. أم أنها صورة خيال ؟! .. أكان محض وهم ؟! .. هل كنت أعرفه يقينا ؟! .. فلم يأت الخواء ؟! .. أحقا أنا منه ؟! .. وهى منه ؟! .. كلانا من نفخته ؟ .. مؤكد .. وإلا ما كنا فى يوم ما واحد .. ولكن أكنا فى يوم ما واحد ؟! .. أهى ذكريات ؟! .. أم خيالات أنسجها ؟! .. ألى ماضٍ ؟! .. أأنا موجود ؟! .. أم أن الخيال ينسج خيالا , وكل لحظة تُملأ بالخيال الذى يملأ ما قبلها ؟! أعود فأسدد بصرى إلى السماء إلى النقطة المظلمة .. الفراغ .. الصمت .. التوحد .. الظلام السرمدى .. التلاشى .. الذوبان .. العدم .. وسط يقين العدم .. انعدمت الحقيقة العدمية .. فى العدم لاشئ .. لا ثابت .. لا حقيقة . لم أعد وحدى وسط هذا الخواء .. إنفصلت عن الفراغ .. ليأتى .. الإنفصال .. التكون .. التشكل .. الوجود .. برق وسط الظلام .. ذكرى ... بل حقيقة .. وجود .. يقين .. الله الله الله .. ذكرى .. أم خيال .. أم حقيقة لم أجدها فى العدم .. الله الله الله .. أضاءت أطراف الظلمة .. لم أجدنى وحدى .. رأيته بلحيته البيضاء .. جلبابه الأبيض النظيف .. ينظر نحوى بابتسامة عطف وحنو بالغين . قال لى : رفقا بنفسك . ما أعظم تعبدك ! .. وما أنقى تأملك ! .. أعرفت اليقين ؟ لم أندهش من وجوده ولا من كلامه .. فقد شعرت أنى أعرفه .. وأنى مرتبط به قدم الأزل . قلت : رأيت اليقين .. وعرفت الحقيقة .. لا أعرف كيف عميت عنها .. وهى واضحة المعالم .. نيرة الطريق .. بينة العلامات .. يراها الكفيف كالبصير .. قديمة قدم الأزل .. كقدم أرواحنا وتشابكها .. أشكرك فقد ساعدتنى يا شيخ . رد : لا يا ولدى اليقين والمعرفة يأتيان وحدهما .. لمن يرغبهما بصدق . أعدت النظر إلى السماء : رب إنى إلتمست إليك الوسيلة .. وعرفتك معرفة الحقيقة .. لأغتسل بنور اليقين .. أغرقنى فى بحار الوجود .. بعيدا عن شطئان العدم وزبد الشك .. كمال البصيرة أسألك .. لأتلافى الشطئان .. فلا يهمنى أغرقت أم سبحت فى بحار نور الوجود .. تغمرنى المعرفة والحقيقة .. حقيقة وجودى أستمدها من وجودك .. فروحى من روحك .. وقدمك قبل الأزل .. هو ما يعيدنا بعد الزلل . انتشر الضوء حولى ليغمر كل شئ .. ما عدا تلك الفجوة السوداء .. لم يغمرها الضوء .. نظرت .. تذكرت .. تيقنت .. لقد كان حقا .. وكانت حقا .. كان يجمعنا .. كانت منى .. كنت منها .. واحد .. هكذا كنا .. الروح واحدة .. من نفخة واحدة .. من عين اليقين .. وكمال الحقيقة .. قد لا تُدرَك معانيها .. لكنى أدرك وجودها . اتكتمل رؤية الروح ؟ .. يتلاشى الظلام ؟ .. يكتمل النور؟ .. أهى الحقيقة الغائبة ؟ .. الله أكبر الله أكبر .. أكان هجرا ؟! .. الله أكبر الله أكبر .. لم يكن وقتها يقين ..أشهد ألا اله إلا الله .. ربما تكون الرؤية مختلفة الآن .. أشهد ألا إله إلا الله .. الحقيقة لها طعم آخر .. أشهد أن محمد رسول الله .. فهمى كان قاصرا , بل ربما لم أفهم ..أشهد أن محمدا رسول الله .. فقد كانت المعرفة منقوصة .. حى على الصلاة .. والحقيقة كانت منقوصة .. حى على الصلاة .. مؤكد سأراه كما لم أره من قبل .. حى على الفلاح .. فالحب قديم قدم الرب .. حى على الفلاح .. أنا مجرد وسيلة . نظرت بجانبى فوجدتها واقفة أمام فجوة الظلام .. إبتسمت وأقتربت منها .. الله أكبر الله أكبر .. أشارت إليه –الحب- وهو يملأ الفجوة .. قالت : هو الحقيقة .. فالحقيقة واحدة وإن اختلفت الوسيلة .. لا إله إلا الله .. تلاشت .. وتلاشت الفجوة أيضا .