فتحت عينى ورائحة الورد الأبيض تحوطنى.. ترتشف أنفى نسمات الحياة بحرية. الله.. طعم الحرية حلو يا جدعان. كل شىء هذا الصباح مختلف، صوت العصافير.. عم محمد بياع الفول ينادى بصوته الأجش فيأتينى كصوت كروان ينشد أحلى الأغانى.. صراخ الأولاد فى شارعنا لم يعد يزعجنى بل أنتظر(حسن) عندما يتعارك مع صديقه (على) فيمسك (حسن) بتلابيب (على) ويظل يكيل له بيديه، لكن (على) بجسده النحيل يمكنه الإفلات كعادته. حتى جارتنا (رضا) لا يحلو لها المشاجرة مع زوجها العجوز فتحى إلا على الريق. أحببت كل التفاصيل واشتقت لها.. لم أنس هزات البيت تحت عجلات الترام الذى أدمنته.. أصحو عليه وأنام على ضجته فى أذنى. لا أعترف بشهادة ميلادى، فولدت يوم ولادة ثورة الخامس والعشرين من يناير. ثمانية عشر يوما هى عمرى الحقيقى، معها بدأت حياتى وحياة كل المصريين. ناديت على والدتى كعادتى عندما أفتح عينى.. كانت تسمعنى لكن صوتى لم يصلها، لا أعرف لماذا، ربما لأننى أسمع صوت التليفزيون فى الصالة عاليا مدويا. لم تتعود أن تفتح التليفزيون على نشرات الأخبار مبكرا، فهى تدمن إذاعة البرنامج العام. صباحها دائما كان إذاعيا وليلها تليفزيونيا. فتحت باب حجرتى فإذا بها تضع يديها على عينيها، وكأن ضوءا قويا انطلق من بابى ضايقها، وسمعت صوت نهنهات وتشنجات متقطعة فهرولت لها مسرعة وصرخت فيها: (مالك يا أمى) لكنها ظلت كما هى.. لا تتحرك. نظرت إلى هيئتها.. وجدتها ترتدى السواد. ألمح حمرة عينيها وانتفاخهما من شدة البكاء وقسوته، حتى خشيت أن يكون أحد إخوتى قد أصابه مكروه. حاولت الإمساك بجسدها أهزه لكى تقول لى ماذا حدث! لكن يدى لم تصل إليها، شعرت بحاجز لا أراه ينبسط أمامى كطيف شفاف يقترب لونه من الزجاج النقى، لكنه مرن بصورة أدهشتنى، فلا أنا أستطيع احتضانها ولا أستطيع اختراق هذا الحاجز، فرفعت صوتى عن آخره فأحسست بفراغ صوتى يرتد إلى أذنى ولا يصلها. فجأة قامت من جلستها تدور حول التليفزيون تصرخ صرخات مكتومة، تبكى بحرقة لم أر مثلها من قبل، تنادينى وأنا بجوارها: (يا أحمد.. يا قلبى يا روحى)، انظر إليها حتى ترانى، لكنها تسلط نظراتها المكلومة إلى جهاز التليفزيون.. فانتبهت إلى التليفزيون لألمح صورا يعرضها.. كانت صورتى إحدى الصور على الشاشة.. وأغنية لمطرب لا أعرفه تقول (يابلادى أنا بحبك يابلادى).. تساءلت: لماذا كانت صورى ضمن هذه الصور؟.. أعرف بعض هذه الصور.. هذا محمد وهذه سالى وهذا حسين.. كانوا معى فى الميدان.. كنا يدا بيد.. لكن هذه الصور لم تكن لكل المشاركين فى الثورة، لماذا إذن تم اختيار هؤلاء؟! لحظات وانتهت الأغنية، وقتها أدركت أننى لم أعد معها على هذه الأرض.. وأننى جئت لأراها وأطمئن عليها وأقول لها لا تحزنى يا أمى فها أنا سليم معاف. تذكرت آخر مشاهدى فى الدنيا عندما حاولت مقاومة الشرطة وكنت أصرخ فيهم: (ده سلمية مش إرهابية) فاخترقت عنقى رصاصة لم أشعر بعدها إلا بنفسى على سريرى، وكأن شيئا لم يحدث.. فملابسى بيضاء ناصعة، ولا أثر فى رقبتى لأى رصاصة.. تاهت التفاصيل فى ذهنى لوهلة حتى شككت أننى كنت أحلم. لكن أجواء الانتصار والثورة كانت تعم الوجوه فى الشوارع.. فى البيوت.. فى كل مكان. طفت بجسدى الفانى حولها.. أبعث قبلاتى الحارة إليها.. أرقص من الفرحة.. فرغم ألمها لكننى لمحت فى عينيها عزة أم الشهيد وبهاءها. ارتاحت نفسى وتنفست هواء الحرية، وانطلقت روحى ترفرف، تشدو تلك الأغنية.. (يا بلادى أنا بحبك يا بلادى)