بفضل الله وبحوله وبمناصرة الشعب وبحياد محترم وحكمة من الجيش وفى غياب مضحك للأمن وفى ظل غيبوبة شيخوخية للنظام وبمباركة من العالم المتحضر المتفاجئ والمندهش تمكن بعفوية ونقاء زمرة من خيرة شباب مصر يفتقدون الخبرة وينقصون القائد أن يسطروا تاريخ أعرق الأمم. أنا لا أعرفهم كى أفند ما يمثل كل منهم من أفكار ومخزون خبرات وثقافة ولا أستطيع بأى حال من الأحوال معرفة مدى معاناة كل منهم الحياتية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ولا الدوافع الحقيقية لكل منهم والتى من المحتمل أن يكون بعضهم هو ذاته يجهلها، لكننى أزعم أننى على تمام اليقين بمدى وطنية كل منهم، هؤلاء الشباب لم يأتوا بجديد من الأفكار. فكل مصرية وكل مصرى على مختلف الأعمار والثقافات والخبرات والمستويات الاجتماعية والاقتصادية له نفس الفكر ما عدا قلة استأثرت بمصالحها لعقود طويلة وفضلتها على المصلحة العامة للوطن، كلنا نريد حق التعبير وحرية الاختيار والعدالة الاجتماعية، كلنا ننشد أن تصبح مصرنا الحبيبة من خيرة الأمم وأكثرها تقدما وتطورا. كلنا نحلم بمصر النظيفة الحاضرة المؤثرة فى كل مناحى الحياة وفى كل الأمم، لا يريد واحد منا مع فخره واعتزازه وتباهيه بحضارتنا التى امتدت لسبعة آلاف عام وأثرت فى العالم القديم أن تكون تلك الحضارة هى العصا الوحيدة التى نتكئ عليها عند مناطحة من حولنا من العالم المعاصر الذى هو وبكل صراحة عندما يشيد بتلك الحضارة يهين فينا الحاضر والمستقبل، لأننا كلنا وبأيدينا عمدا أو عن غير قصد أنانية أو جهلا سلبية أو تهورا غفونا وأهملنا وتقاعسنا عن القيام بواجباتنا وأدوارنا، وتواكلنا على تاريخ نحكيه ونتفاخر به دون النظر وبرؤية ثاقبة مستنيرة للأسباب التى رفعت من أجدادنا الأوائل إلى عنان السماء ولتلك التى حطت بنا إلى ما نحن فيه الآن، إذن ما الجديد الذى أتى به شباب 25 يناير حتى نعرف ونسمى الأسماء بأسمائها علينا أن نفهم عقلية هؤلاء الشباب، هم كسائر المصريين لهم نفس الأحلام والآمال والطموحات، وهم عانوا كما عانينا جميعا من الظلم والقهر المباشر وغير المباشر، فنحن الأكثر خبرة والأكثر معاناة بحساب سنين العمر وبحجم المسئوليات- كنا نتكلم ونتناقش فى الصالونات والمقاهى وفى الجلسات الخاصة والعامة عن كل ما يختلج أنفسنا، وعن كل ما يطبق على صدورنا فى إطار الديمقراطية الزائفة التى لطالما تغنى بها المنافقون للنظام السابق، فحرية التعبير كانت مكفولة للأغلبية على ألا تتحول فى يوم من الأيام إلى إرادة فى التغيير، فكنا نتكلم ونتكلم ونتصارع ونتناطح لغويا وفكريا كما تعوى الحيوانات فى محبسها دون غيره حتى خارت قوى البعض وأصيب الأغلبية بالإحباط والعجز وعزفنا عن كل شىء فى الحياة إلا عن البحث عن لقمة العيش، وأصبحت ثوراتنا فى مشادة منزلية أو مشاجرة فى شارع أو تمرد على قدسية العمل أو فى انحطاط أخلاقى أو انفلات سلوكى أو تطرف فكرى أو دينى. أما هؤلاء الشباب فهم مازالوا بكامل طاقاتهم، حوصروا سياسيا وهوجموا فكريا وغيبوا سلوكيا وأهملوا اجتماعيا واقتصاديا وتربويا ومع ذلك ظلت الأغلبية العظمى منهم نقية غير ملوثة متمردة داخليا كامنة تنتظر الاحتواء والتوجيه من قدوة موثوق بها إما لهدف قومى حقيقى وأمل فى غد أفضل أو الترك والتجاهل الذى سيؤدى حتما إلى انفجار لا يعلم توقيته ومداه إلا الله ثم فوران لتلك الطاقة المكبوتة، لقد انتهج المثقفون منهم نهجا معاصرا فى الحوارن نهج هادئ بلا ضجيج على المواقع الاجتماعية للشبكة العنكبوتية، تلاقت أهدافهم التى هى فى الأصل أهداف كل المصريين حتى وإن اختلفت توجهات كل منهم، اختمرت الأفكار وأخذت تنضج شيئا فشيئا حتى انفجرت فى لحظة مفترق طرق بلغ فيها القهر والظلم والاستبداد منتهاه وهى واقعة الشاب خالد سعيد. وقد زاد من الانفجار التناول المعيب وغير المسئول لجهاز الشرطة المنوط به حماية الشعب للأحداث ومحاولة المراوغة وتزييف الحقائق وتلفيق التهم. كان النظام عقيما فى فكره متخلفا عن عصره ظالما لشعبه، العدالة يا سادة هى الغذاء الحقيقى للشعوب، العدالة فى كل شىء هى التى تكفل استقرار الأمم، الحوار حوار فكرى فى إطار ديمقراطى حقيقى وعدالة ومساواة وتكافل هو السبيل الوحيد لغذاء الشعوب وسد جوعها، ليس حوار البطون والمعدة والأمعاء. إن الغالبية العظمى من الشعب المصرى مازالت تبقى تحت خط الفقر، لقد سلمنا بذلك وقد سلمت الحكومات المتعاقبة للنظام السابق بذلك، وبدلا من استمالة تلك الأغلبية بالنظر إلى مشاكلها الحقيقية ومحاولة حلها على أرض الواقع كان الخطاب السياسى محبطا لكل المصريين، وأصبح النظام يساوم تلك الأغلبية بعلاوة يلتهمها ارتفاع الأسعار وببنية تحتية مهترئة تمثل إنجازات النظام فى العقود الثلاثة الأخيرة.. ومع كل ذلك كان من الممكن لتلك الأغلبية المطحونة أن تتحمل إذا استشعرت نسبة ولو قليلة من العدالة والأمل والجدية فى الحل، والدليل واضح وهو عدم قيام ثورة الجياع التى توقعها الجميع بعد لتجدد الأمل وجدية المؤسسة العسكرية الأكيدة والموثوق بها. اختفت الطبقة المتوسطة التى هى قاطرة الشعوب عمدا أو غباء، فأصبحنا مثل الفنان أحمد مظهر رحمه الله فى فيلم الأيدى الناعمة برنس يسكن سراى ولكنه لا يجد ما يسد جوعه، أصبح لا يوجد فارق بين موظف دخله الشهرى 1000 جنيه لا يكفيه لمدة 10 أيام وبين صاحب مهنة حرة شريفة دخله الشهرى 100 ألف جنيه يكاد لا يكفيه لمصاريفه الحياتية والتزاماته الاجتماعية ولمصاريف المدارس الخاصة والدروس الخصوصية وإلخ.. ثم ضرائب غير عادلة مفروضة عليه تعتبر 90% من نفقاته مصاريف شخصية لا تخضع للإعفاء، بينما تعفى سياسات النظام الكثير من غير الشرفاء الذين تلاعبوا بمقدرات هذا الوطن، ونهبوا ثرواته عن غير حق . أنا لا أتكلم فقط عن رجال الأعمال . فكثير منهم شرفاء وطنيون، ولكننى أقصد أيضا الكثير منهم ومن غيرهم ممن استفادوا من النظام واستفاد النظام منهم ليبقى مطبقا على هذا الشعب باختلاف طبقاته وتوجهاته، حتى فى هذا الفساد المستشرى لم نجد عدالة، فالموظف الصغير الذى يتم ضبطه بقبول 10 جنيهات إكرامية يحاكم على أنه مرتش وتتصدر أخباره الصفحات الأولى من الصحف القومية، أما الموظف الكبير الذى يقبل رشوة بالملايين لتسهيل إهدار المليارات من قوت هذا الشعب لصالح البعض لا يحاكم إلا فى حالة واحدة فقط وهى تخلى النظام عنه فى لحظة ما. لا أريد الخوض أكثر من ذلك فيما سبق على الأقل الآن، فنحن بصدد مستقبل ينتظرنا كلنا لا يعلمه إلا الله، لا أقصد أننا مسيرون حتى نتواكل ونبقى أكثر سلبية مما سبق، لا نحن مخيرون وبأيدينا جميعا يمكننا أن نبنى أو أن نهدم، نستطيع أن نتقدم أو أن ينسانا الجميع نقدر أن نفعل أو أن يفعل بنا الخيار فى أيدينا والمستقبل أمامنا فماذا نحن فاعلون؟ الشهور القادمة ستحدد مصير أمتنا لذا يجب أن يتكاتف الجميع وأن يبدأ كل منا بنفسه، ليراع كل منا الله والوطن والغير فى عمله وسلوكه واختياراته، لنفصل بين المصالح الشخصية والفئوية حتى وإن كانت حقوقا وبين الثمرة التى ننشدها من التغيير، وليحترم الصغير الكبير مهما اختلف معه وليحتو الكبير الصغير مهما بعد الأخير عنه ولنستمع لشبابنا ونعطهم خيرة خبراتنا ولنعد للأسرة المصرية قوامها السوى وتماسكها وتقاليدها. لنصمت عن الاحتفال والإشادة بشباب الثورة حتى لا نفسد نقاءهم وعقولهم ومجهوداتهم كما أفسدنا كل فكرة أو توجه أو حاكم أو نظام، لنستعد أنفاسنا ولننق أنفسنا من الأحقاد والأهواء والأغراض، لنجبر المتلونين والمهللين والمنتفعين وراكبى الأمواج على الانزواء بصمتنا وتعففنا وبعملنا الجاد الصارم لبناء مصر، لا يجب أن تأخذنا رغبة الانتقام فليس كل متهم مدان حتى تثبت إدانته، ليس من المنطق أو الصالح العام أن نحاسب أحدا دون الآخر وأن نغفر لأحد دون الآخر، فالفساد قد ضرب فى الجذور، لا يمكن بأى حال من الأحوال أن نطلق الاتهامات على ضابط شرطة مثلا لكنيته مهما كانت مواقفه السابقة دون محاسبة أمين شرطة يقهر يوميا عشرات المواطنين ويفرض عليهم الإتاوات ويرهبهم بدون وجه حق، ليس من المعقول أن نحاسب وزيرا دون أن نحاسب موظفا صغيرا يهمل مصالح المواطنين ويعطلها، ليس من العدل أن نحاسب نظاما ورئيسا وحكومة وحزبا دون أن نحاسب أنفسنا كشعب، كل شعب يستحق نظام حكمه، ها قد غيرنا نظاما فهل نستطيع تغيير شعب؟ أستاذ بطب القصر العينى