بإصدار الضباط المتمردين فى موريتانيا "البيان رقم واحد"، الذى أعلنوا فيه تشكيل مجلس دولة جديد برئاسة محمد ولد عبدالعزيز، قائد الحرس الرئاسى وإلغاء قرارات الرئيس سيدى محمد ولد الشيخ عبدالله، الذى وصفوه بأنه الرئيس السابق بعد الإطاحة به، تكون الديمقراطية الموؤدة فى موريتانيا قد عادت إلى المربع صفر، ولا تشذ فى شىء عن تراث عربى طويل من الانقلابات العسكرية المعهودة. الشارع العربى الذى كان قد نسى حديث الانقلابات منذ فترة طويلة، سواء بسبب القبضات الأمنية المشددة للأنظمة العربية، أو لغياب الدعم الغربى الكلاسيكى لحركات التمرد، استيقظ الأربعاء على أنباء سيطرة قوات مسلحة موريتانية على القصر الرئاسى فى نواكشوط، وتطويق مجموعة من المرافق العامة، واعتقال الرئيس سيدى محمد ولد الشيخ عبدالله، ورئيس الحكومة يحيى ولد أحمد الواقف، وفق ما أكده الناطق باسم الرئاسة الموريتانية. الانقلاب العسكرى الذى قام به قائد الحرس الرئاسى، وقائد أركان الجيش بعد صدور قرار رئاسى بإقالتهما من منصبيهما، لم تتخلله اشتباكات أو إطلاق نار. "أبيض" حتى الآن، لكن لا أحد يضمن حدوث تطورات أخرى اليوم أو غد. موريتانيا ذات ال 3 ملايين نسمة، شهدت 10 انقلابات منذ استقلالها عن فرنسا فى عام 1960، لكن راج ظن عربى واسع النطاق فى العام الماضى أنها ودعت عهد الانقلابات إلى غير رجعة، وبدأت مشواراً ديمقراطياً يندر تكراره فى أية دولة عربية أخرى, بعد تسليم السلطة من العسكريين طواعية إلى حكومة مدنية منتخبة. سيناريو أحداث الأيام الماضية فى نواكشوط كان كلاسيكياً للغاية, وكان من السهل التنبؤ به من جانب أى مواطن عربى، قرأ شيئاً يسيراً عن تاريخ الصراع على السلطة فى المنطقة العربية، فى سوريا أو العراق أو السودان، أو غيرها من دول المنطقة الموعودة بالانقلابات. بحسب مراسلى وكالات الأنباء، فإن مهندس الانقلاب العسكرى هو الجنرال محمد ولد عبد العزيز قائد الحرس الرئاسى، ومعه الجنرال محمد ولد الغزونى قائد الجيش، ويساعدهما قائد الحرس الوطنى وقائد الدرك. وقد قاموا بنشر الحرس الرئاسى الموريتانى بكثافة فى شوارع نواكشوط، وتطوّيق مراكز الحكومة والإذاعة والتلفزيون. المتمردون بثوا رسالة عبر التلفزيون الموريتانى بعد السيطرة عليه، جاء فيها اعتبار قرارات ولد الشيخ عبدالله الذى وصف على أنه "رئيس سابق" لاغية، وذلك من قبل مجموعة الضباط الذين شكلوا ما سموه "مجلس دولة" برئاسة الجنرال محمد ولد عبدالعزيز. لا يخلو الأمر بالطبع, طبقاً لسيناريو الانقلابات المحفوظ عن ظهر قلب من تبادل الاتهامات. عبدالله مامادوبا، الناطق الرسمى باسم الرئاسة الموريتانية، قال إن ما يحدث هو انقلاب ينفذه ضباط متمردون أقالهم الرئيس، كاشفاً أن ولد الشيخ عبدالله والواقف وضعا قيد الاعتقال فى مكتب قائد الحرس الرئاسى. واتهم مامادوبا الضباط الضالعين بالانقلاب باستخدام نواب الحزب الحاكم أداة سياسية له، وقال إن أولئك الضباط "كانوا يرون فى الرئيس دمية، لكن اتضح لهم عكس ذلك، فزرعوا البلبلة داخل الحزب الحاكم، وعند التلويح بانفصال بعض النواب عن الحزب وتهديد الغالبية، حاولت أوساط الرئيس الدخول فى مفاوضات لتشكيل غالبية جديدة مع أحزاب أخرى، وعندما عرف الضباط ذلك حركوا الآلة العسكرية". ووصف مامادوبا خطوة القوات المسلحة بأنها "انقلاب على الشرعية الدستورية،" باعتبار أن الرئيس الموريتانى مارس صلاحياته فى إقالة الضباط. وكان 48 من نواب حزب العهد الوطنى، الذى يشكل الغالبية النيابية فى البرلمان، قد تقدموا باستقالتهم من عضوية الحزب الثلاثاء، وهددوا بالانضمام إلى المعارضة للإطاحة بالرئيس. وتأتى هذه التطورات بعد أسابيع من أزمة سياسية فى البلاد، بدأت مع معارضة نواب من حزب العهد الوطنى لتشكيل حكومة بقيادة الواقف، التى قدمت استقالتها بتأثير ذلك فى الثانى من يوليو الماضى، ليعود ولد الشيخ عبدالله بتكليف رئيسها تشكيل حكومة جديدة. وقبل ذلك لوّح الرئيس محمد ولد الشيخ عبدالله بإمكانية حل البرلمان، إذا أقدم النواب على حجب الثقة عن الحكومة، متعهداً بالحفاظ على "المسار الديمقراطى والتشاور" وسيلة للحكم. ورأى البعض فى موقف الرئيس الموريتانى انعكاساً للصراع بين عدد من السياسيين وضباط الجيش بحجة تعيين شخصيات مقرّبة من نظام الرئيس السابق، معاوية ولد الطايع، الذى أطاح به الجيش بانقلاب غير دموى فى أغسطس 2005، الأمر الذى قابله انتقادات حول تقاعس العسكريين عن تسليم السلطة للمدنيين. وتوجه الشيخ عبدالله للموريتانيين فى الثالث من يوليو برسالة متلفزة، أكد خلالها تمسكه الشديد بالنهج الديمقراطى، وحرصه على صيانة هذا النهج من أى انحراف، مهما كان الثمن. وتطرق الرئيس الموريتانى إلى ما يتردد عن العلاقات التى تربطه بقادة الجيش قائلاً: "أؤكد أن أولئك الضباط مؤتمنون على وظائفهم، وهم بذلك يستحقون ثقتى ويحظون بها كاملة غير منقوصة. لكنه وقع ضحية رهانه الخاسر على العسكريين. ليس العسكريين فقط، وإنما تراث سياسى عربى لا يمكن اقتلاعه من جذوره. وكان الموريتانيون قد انتخبوا ولد الشيخ عبدالله رئيساً فى مارس الماضى، وذلك فى انتخابات جرت وفقاً لتعهدات المجلس العسكرى للعدالة والديمقراطية ورئيسه، العقيد على ولد محمد فال، الذى كان قد انقلب على الرئيس السابق ولد الطايع، الذى وصل بدوره إلى الحكم عام 1984 بتحرك عسكرى. ومنذ الاستقلال عن فرنسا عام 1960، شهدت موريتانيا 10 انقلابات بين ناجحة وفاشلة. ويرى بعض الخبراء أن حقيقة الأزمة تتمثل فى قلق بعض أوساط سياسيين مدنيين من تأثير الجيش على الحياة العامة، وتأخره فى تسليم مفاصل السلطة لهم، بينما يرى خبراء أن العسكريين ينظرون بعين الريبة إلى تعيين عدد من مساعدى ولد الطايع فى مراكز مرموقة، الأمر الذى يهدد أهداف انقلابهم. وتعد تجربة نقل السلطة من العسكريين إلى مدنيين على غرار ما فعل فال مع ولد الشيخ عبدالله الأولى فى تاريخ الانقلابات العسكرية المتعددة التى شهدتها المنطقة العربية، بعد تجربة عبد الرحمن سوار الذهب فى السودان هام 1985. جزء من الأزمة السياسية فى موريتانيا سببه اقتصادى، ارتفاع أسعار السلع الأساسية. لكن الأزمة الأكبر بالقطع تتمثل فى ثقافة سياسية عربية متجذرة، لا تؤمن بالديمقراطية، ولا تتحمل ممارستها لأشهر قليلة. وموريتانيا نموذج واضح للغاية.