برقم الجلوس.. نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 بكفر الشيخ    مدبولي يوجه بطرح رؤية تطوير "الثانوية العامة" للحوار المجتمعي    توجيه جديد لوزير التعليم العالي بشأن الجامعات التكنولوجية    ب35 مليون جنيه.. آمنة يعلن التسليم النهائي للمدفن الصحي بشبرامنت اليوم    «غرفةعمليات التموين»: تحرير 2280 محضرا لمخلفات المخابز بالقاهرة    محافظ أسوان: حل مشكلة انقطاع مياه الشرب بنجع الشريف إبراهيم بدراو    حركة فتح: نثمن الجهود المصرية لضمان حقوق الشعب الفلسطيني    كوريا الشمالية ترسل 600 بالون إضافي محملين بالقمامة عبر الحدود    الزمالك: جوميز مستمر مع الفريق| والفوز بالكونفدرالية لحظة فارقة    محمد طارق: شيكابالا أسطورة| وصاحب تاريخ كبير من العطاء في الزمالك    الوكرة يكشف ليلا كورة.. حقيقة طلب التعاقد مع أليو ديانج    موعد والقناة الناقلة لمباراة الزمالك وسبورتنج بنهائي كأس اليد    صور| بسبب الحرارة.. الحماية المدنية بالغربية تسيطر على حريق بكفر الزيات    تأجيل محاكمة محاسب اختلس 1.7 مليون جنيه من جهة عمله في البساتين    إصابة 4 أشخاص في انقلاب سيارة في الشرقية    سعد الصغير يؤجل طرح «بابا الشغلانة» بسبب وفاة والدة الليثي    الكلمة هنا والمعنى هناك: تأملات موريس بلانشو    بردية أثرية تحدد بدقة «مسار العائلة المقدسة»    مفتي الجمهورية: يجوز للمقيمين في الخارج ذبح الأضحية داخل مصر    مظاهر الرفق بالحيوان عند ذبحه في الشرع.. مراعاة الحالة النفسية الأبرز    حج 2024| «الأزهر للفتوى» يوضح حكم الحج عن الغير والميت    رئيس الوزراء يُتابع جهود اللجنة الطبية العليا والاستغاثات خلال مايو الماضي    تحرير 139 مخالفة للمحلات غير الملتزمة بقرار الغلق لترشيد الكهرباء    غرفة الرعاية الصحية باتحاد الصناعات: نتعاون مع القطاع الخاص لصياغة قانون المنشآت الجديدة    عيد الأضحى.. موعد أطول إجازة متصلة للموظفين في شهر يونيو 2024    أعلى نسبة مشاهدة.. حبس سيدة بثت فيديوهات خادشة عبر فيسبوك بالإسكندرية    رئيس بعثة الحج الرسمية: بدء تفويج حجاج القرعة من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة    في زيارة أخوية.. أمير قطر يصل الإمارات    الخارجية الفلسطينية ترحب بدعوى تشيلي ضد إسرائيل أمام محكمة العدل    "الحوار الوطني" يطالب بالإفراج عن المحبوسين احتياطيا نتيجة انخراطهم بدعم فلسطين    قيادات «المتحدة» ونجوم الفن ورجال الدولة في احتفالية العرض الخاص من سلسلة «أم الدنيا 2»    نسرين طافش تكشف حقيقة طلبها "أسد" ببث مباشر على "تيك توك"    حفر 30 بئرًا جوفية وتنفيذ سدَّين لحصاد الأمطار.. تفاصيل لقاء وزير الري سفيرَ تنزانيا بالقاهرة    تنفيذ 5 دورات بمركز تدريب الشرقية خلال مايو الماضي    نواب بالجلسة العامة يؤيدون التحول للدعم النقدى ليصل لمستحقه    بدء تطبيق عقوبة مخالفة أنظمة وتعليمات الحج في السعودية    وزارة العمل: توفير 3537 فرصة عمل جديدة في 48 شركة خاصة    رئيس الوزراء يُتابع إجراءات سد العجز في أعداد المُعلمين على مستوى الجمهورية    طريقة عمل الفطير المشلتت الفلاحي، الوصفة الأصلية    قرار جديد من محكمة النقض بشأن قضية «شهيدة الشرف»    السكرتير المساعد لبني سويف يناقش إجراءات تعزيز منظومة الصرف بمنطقة كوم أبوراضي الصناعية    مجلس الزمالك يسابق الزمن لتجهيز مستحقات الفريق.. ومفاجأة بخصوص جوميز (خاص)    رسمياً.. منحة 500 جنيه بمناسبة عيد الأضحى لهذه الفئات (التفاصيل والموعد)    وزيرة التخطيط ل"النواب": الأزمات المتتالية خلقت وضعًا معقدًا.. ولابد من «توازنات»    سيناتور أمريكي: نتنياهو «مجرم حرب» لا يجب دعوته للكونجرس    «الداخلية»: ضبط قضايا اتجار في النقد الأجنبي ب9 ملايين جنيه خلال 24 ساعة    أحمد حلمي يطالب بصناعة عمل فني يفضح الاحتلال الإسرائيلي: علينا تحمل مسئولية تقديم الحقيقة للعالم    طبيب قلب يقدم نصائح للوقاية من المضاعفات الصحية الناتجة عن حرارة الصيف (فيديو)    الاتحاد السكندري يخشى مفاجآت كأس مصر أمام أبو قير للأسمدة    وسائل إعلام لبنانية: شهيدان مدنيان في غارة إسرائيلية على بلدة حولا    محافظ كفر الشيخ يعلن أوائل الشهادة الإعدادية.. والطالبات يكتسحن القائمة (أسماء)    متحدث الزمالك: شيكابالا أسطورة الزملكاوية.. وهناك لاعب يهاجمه في البرامج أكثر مما يلعب    ل برج الجوزاء والعقرب والسرطان.. من أكثرهم تعاسة في الزواج 2024؟    انتقادات أيرلندية وأمريكية لاذعة لنتنياهو.. «يستحق أن يحترق في الجحيم»    دعاء دخول مكة المكرمة.. اللهم أَمِّني من عذابك يوم تبعث عبادك    تداول 15 ألف طن و736 شاحنة بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    «خبرة كبيرة جدًا».. عمرو السولية: الأهلي يحتاج التعاقد مع هذا اللاعب    قصواء الخلالى ترد على تصريحات وزير التموين: "محدش بقى عنده بط ووز يأكله عيش"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وجها لوجه مع جندى "المارينز " فى المدرسة
مصرى يكتب من أمريكا:
نشر في اليوم السابع يوم 19 - 05 - 2008

كنت قد دأبت منذ أربعة أعوام على إلقاء محاضرات فى المدارس الثانوية وبعض الجامعات فى ولاية ميرلاند عن أهمية الفن كوسيلة للتواصل تتخطى كل حواجز اللغة والثقافات المختلفة لتوحد قلوب البشر على كافة مذاهبهم واعتقاداتهم. وأذكر جيدا يوم أن وصلتنى أول دعوة للتحدث أمام طلبة إحدى المدارس هنا، وكيف أن مدير المدرسة قابلنى وأثنى على شجاعتى لمواجهة مثل هؤلاء الوحوش الذين يطلق عليهم لقب طلبة من باب الكرم ولا الاستحقاق، وأذكر أيضاً تعجبه على الصمت الذى حل على القاعة التى كانت تكتظ بالطلبة الذين وافقوا على الحضور من باب أن شر المحاضرة التى سألقيها أهون بكثير من شر المادة التى كانت ستلقى عليهم بدلا من محاضرتى.
فى واقع الأمر أنى اتخذت من تلك المحاضرات وسيلة للتعريف بمصر وانتهزت هذه الفرصة لأحطم أصناماً من المعتقدات العجيبة والتى يحملها الغرب فى العموم والشعب الأمريكى على وجه الأخص, فمعظم الناس هنا لا يعرفون عنا إلا ما يسئ إلينا والبركة فى ذلك تعود إلى الإعلام الأمريكى والذى لا يجد لدينا إلا ما يريده هو، والبركة أيضاً تعود على مكاتبنا الثقافية هنا والتى لا تقوم بواجبها بالتعريف عنا. أمضى نصف المحاضرة فى التعريف بمصر وكيف أننا وبحق لا نمتطى الجمال فى الذهاب إلى البنوك والجامعات وأنا لا أبالغ حين أصرح بأن نسبة كبيرة من زملائى الجامعيين والذين درست معهم مسرح وسينما كانوا ينظرون إلى نظرة الإعجاز على أنى رغم نشأتى على ظهر جمل إلا أنى أجيد قيادة السيارة، ليس ذلك فحسب فها أنا ادرس فنا كالسينما أمضيت فترة كبيرة فى كسر الأصنام فى عقول زملائى وها أنا الآن أفعل نفس الشئ فى عقول تلاميذ المرحلة الثانوية.
الشعب الأمريكى لديه انبهار ولكنه سطحى عن الحضارة المصرية القديمة وطوال الوقت يقارن بين ما حفرته فى عقله ومخيلته السينما الأمريكية عن تلك الحضارة وبين ما يلقيه عليهم أى محاضر مثلى يأتى من تلك الأرض البعيدة ويقف أمامهم يحادثهم عن الفارق بين حضارة عرفت النور منذ ساعات وأخرى ظل النور يغازلها لآلاف السنين. طوال الوقت فى محاضراتى أردت أن أركز على نقطة واحدة أساسية وهى أن الحضارات تذهب وتجئ ويبقى الفن الذى تنتجه هذه الحضارات باق وراسخ يعلن عن نفسه وكيف أن الحضارة الأمريكية لو اختفت فجأة اليوم فإنه لن يبقى إلا الأكواب البلاستيكية لمشروب الصودا الذى تنتجه شركة ميكدونالد فى شوارع المدن الأمريكية, وكان هذا التشبيه يلقى أقوى رد فعل فى كل مرة تستضيفنى فيه جامعة أو مدرسة وكان تأكيدى الدائم على أن الحضارات لا تترك وراءها ترسانات الأسلحة كبصمة وجود ملهمة للأجيال القادمة، بل إن الفن هو الملهم وهو الذى يؤكد دائما أن الإنسان هو حيوان بذاكرة تخلد بعطائه الفنى.
حوار المسدسات
لاقت محاضراتى من الاستحسان ما لاقت ولاقت أيضا منً الاستهجان ما لاقت، ولم أبتهج بالاستحسان ولم اضطرب بالاستهجان, فالاثنان يأتيان كرد فعل لعقل متعجل يأخذ من الأشياء قشورها فى أغلب الأحيان ، على أن زيارتى لمدرسة فى أحد الأحياء الفقيرة هنا تركت لدى أحاسيس ستظل معى لفترة كبيرة، فها أنا أحسب الخطوات التى سأمضيها من سيارتى إلى باب المدرسة تسبقنى الشهادتان والدعوات بالوصول سالما والعودة إلى حصنى الأخير سيارتى سالما أيضاً حيث إن الفقر هنا مرتبط ارتباطا لصيقا بالعنف وجرائم القتل والسرقة بالإكراه، وحيث إننى أيضاً وفى كل مره تتم دعوتى إلى مكان ارتدى أفضل ما لدى من ثياب لأضيف هيبة ضرورية فى مجتمع حقا لا يعبأ أفراده بما يرتدون... أثناء مرورى على المدرسة وجدت طلبة يكملون صفقات بيع مخدرات على تليفوناتهم المحمولة
وتحت "جاكيتاتهم" يتدلى جزء من مسدس لا يبذل صاحبه جهداً حقيقاً فى إخفائه..كان هذا هو المناخ الذى قابلنى حتى قبل أن تطئ قدماى أراضى المدرسة ذاتها ولا أدرى من أين أتيت بإرادة التصميم على المضى فى مهمتى ولماذا ألبستها لباساً مقدساً على الرغم من نظرات الاستهجان التى قابلتها حتى قبل دخولى إلى البوابة الرئيسية، والتى يوجد بها مكان للأمن كأنك داخل إحدى قاعات المطار فى أى بلد آخر..فها هى البوابة الإلكترونية والتى خلعت قبل أن أدخل إليها كل ما هو له علاقة بالمعادن.
بطبيعة الحال لا يملك العقل إلا عقد المقارنات وكان هذا الحى يعادل مثلا حى بولاق الدكرور فى فقره ولكن أين له من طيبة أهل حى بولاق الدكرور وانكسارهم فى العموم، فالعيون هنا تخترقك وتحسب حسابات القوة والضعف فى كل من ينظر إليها وتعبير "طيب" قد يعادل الموت وتحجرت الوجوه ولم يعد القلب يتعرف على الطيبة أو الخجل حتى لو لطماه الاثنان على خده, فلكى تحيا فقط مجرد الحياة فى مكان كهذا عليك ألا تظهر أى ضعف فى أى لحظة. ماذا الذى سأحدثهم عنه .. خلود وحضارة إلى آخره من مفردات هى بالنسبة لهم مبعث التنكيت كيف يمكن لى أن أضع عينى فى عين تاجر المخدرات الطالب- الذى شاهدته من لحظات بعينى ينهى صفقه هى بذاتها ضعف ما يتقاضاه مدرسه فى أسبوع... تبدل لدى إحساس القداسة بالعبث وإحساس الهيبة بإحساس الفرار ولو حتى المخجل من مدرسة هى أسطورية بكل المعانى.. ولأنى مثل أهالى بولاق الدكرور أؤمن تماما بمشيئة الله فإننى مضيت فى مهمتى رافعا شعار "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".
توجهت فى البداية إلى غرفه انتظار أعدت خصيصا للمحاضرين، حيث كنا جميعا جزءا من يوم دراسى تم تخصيصه بالتحديد لاطلاع الطلبة على الفرص المختلفة المطروحة أمامهم لاختيار الدراسة الجامعية التى تتناسب مع المهنة التى يودون أن تكون هى مهنتهم فى المستقبل وتسمى المدارس هذا اليوم باليوم المهنى. كان هناك ممثلون عن مختلف الوظائف كالمهندس والمحامى والطبيب ولفت نظرى جداً وجود جندى من المارينز ضمن وفد المهن المختلفة.
الخدمة العسكرية هنا ليست إجبارية ولكن ينظر إليها على أنها مهنة يمكن للفرد أن يمضى فيها سنوات عديدة ويعلن اعتزاله فى سن مبكرة ويحصل على المعاش ويمكن له أن يعمل فى أى شئ آخر بعد ذلك. كان هذا هو السبب الرئيسى الذى يجعل المسئولين عن الجيش يرسلون ممثلين لهم بهدف استقطاب الشباب صغير السن ليلتحق بالجيش, وكان التركيز كله على المناطق الفقيرة والتى يعتبر الالتحاق بالجيش بالنسبة لصغارها هو الوسيلة الوحيدة للخروج من نفق الفقر والعنف المظلم. ولقد أوضح مايكل مور المخرج التسجيلى المعروف تلك النقطة فى فيلمه الشهير "فهرنهيت 9/11".
مياه دجلة المسروقة
تركت أنا كل المهن وتسمرت عيناى على جندى المارينز والذى كان صوته أعلى من كل الأصوات الموجودة فى الغرفة. ووجدت مذيعة التليفزيون والتى أتت لتعلق على مهنتها تتبعه أيضاً ولكن بشغف يختلف سببه عن كل أسبابى ...هاهو إذن الجندى الذى يرحل أينما قررت الإمبراطورية أن تتسع، ها هو إذن اليد المنفذة لسيطرة إمبراطورية لا تعرف للقناعة بابا.. صغير السن تبدو عروق ذراعه أقرب إلى الأنابيب منها إلى العروق البشرية عيون تتقد طمعا وعقل مرتب ولكنه أيضاً عقل لا يعرف كيف يتعامل مع المحيط إذا تغير الترتيب.
إنه عقل منفذ جيد ولكنه ليس على الإطلاق عقل مبدع ومرن...جئنا كلنا باللباس المدنى وجاء هو مزهوا بلباس عسكرى يمثل لى كل ألوان القهر والصلف، ها نحن الاثنان على أرضية مشتركة ومتساوية وكان يمكن أن أكون أنا على الجهة المقابلة لمسدسه لو كنت عراقيا ومن يدرى لعل اليوم يجئ وأكون أنا مقابل مسدسه لكونى مصريا. استغرقنى ذلك الجندى كل الاستغراق ولم أفطن إلى الوقت والمكان ولاحظت بين ما لاحظت عليه أنه أتى بخوذة عسكرية وعلم وزجاجتين صغيرتين تشبهان زجاجات العطر الزيتى الذى يباع فى حى الحسين ولكن كان بداخلهما سائل أبيض أقرب إلى الماء .
دارت بداخلى طاحونة التفسيرات ترى ما هذا السائل الأبيض وما مدى أهميته له حتى يأتى به فى يوم كهذا؟ ولماذا زجاجتان؟ وازداد صوت الطاحونة ارتفاعا صارخا فى أن أسأله ببساطة ولكن أبت نفسى أن أفعل شيئا وتبعت المثل القائل "يا خبر النهاردة بفلوس بكره يبقى"... وفى مسافة دقائق جاء الغد حيث سألته إحدى المشتركات وكانت إجابته كافية ليس فقط لتخرس طاحونة التفسيرات بداخلى ولكنها أيضاً أخرست أشياء كثيرة وأيقظت معان كثيرة من سباتها ليتبدل الصراخ بصراخ ولأشعر بخدودى ليس فقط تحمر بل تدمى من مزيج من الدهشة والغضب حيث إنه أعلن أن الزجاجتين مليئتان بمياه نهرى دجله والفرات.
قفزت إلى قلبى صور من أمهات ونساء كن سبايا حروب خسرناها بقهرنا لأنفسنا وبالتالى بقهر الآخر لنا. ورقصت فى أحشائى صور لعشاق كثيرين طفن حول هذين النهرين القديمين قدم البشر أيضاً لم تفلت من مخيلتى صوره صدام حسين يعوم (وحيدا بالطبع) فى تلك المياه ولغمرة العبث رأيت رجال مباحثه يصرخون فى اسماك النهرين أن يلزموا جحورهم ولا يخرجوا حتى ينتهى هو من مباركة المياه.
لم أستطع مهما عبثا حاولت- أن أوقف تيار الصور والذى يأتى بطبيعة الحال مصحوبا بأصوات فكل همسات وأشعار وصرخات كل البشر حول هذين النهرين تم تلخيصهم فى زجاجتين يحملهما جندى أمريكى عاد لتوه من ال (عيراق) كما ينطقها ذوى التعليم المحدود هنا...وتذكرت بالصوت كل أغانينا عن ال"تبر سايل بين شطين" وال"نهر الخالد" وكل الحروف التى كانت مغموسة بعزة لا تتردد فى التضحية بأغلى الغالى من أجل رمز لأمة...وتذكرت أيضاً أن أخى الأصغر كان يمقت كثيرا القول "بلادى بلادى مفتوحة كالسماء" وكنت أنا أذكره على الدوام بالتكملة " تضم الصديق وتمحو الدخيل"..وهاهو نهر دجلة والفرات معبأ فى زجاجات يعبث بها تاجر يتاجر بقسوة الفقر والذى يحاول أن يخلق منه "فحم الحريقة "كما سمعناها من شيخنا "إمام عيسى".
قاومت بشدة رغبتى العارمة فى القئ واعتبرتها آخر خطوط مقاومتى أنا الشخصية.. وقاومت أيضاً رغبتى فى ترك المدرسة والذهاب إلى شقتى لالتحف بغطاء مهما اتسع فلن يخفى إحساس اكتشاف العورة التى طعننى به الجندى ذو الزجاجتين.. ازداد ضغطى على أسنانى وبإصرار الصعيدى تمسكت وقلت لنفسى لابد أن أواجه القهر فى عقر داره (لأنه يبدو أكثر احتمالا من مواجهته فى عقر دارى أنا شخصياً).
المواجهة
توزعنا إلى فصول مختلفة وكان من قبيل الصدفة أن يتم توزيعى على فصل لأشارك الجندى الأمريكى الوقت أمام الطلبة فى فصل واحد, جلست أتأمل منهجه فى طرح رؤيته عن كيفيه تشجيع الطلبة على الالتحاق بالجيش واعتباره وظيفة ومخرجا. العلم الذى كان يحمله هو علم عراقى أتى به ليدلل على أن العراق تحت صدام كانت تهمل شعبها إلى درجة أن هذا العلم مصنوع باليد وليس بماكينة خياطة بخلت بها السلطات العراقيه (الدكتاتورية) وكذلك الخوذة التى أتى بها كانت خوذته فى الحرب والتى لم يستطع الجندى العراقى (الغبى) كما نعته أن يصوب مسدسه بدقة عليه وأتى فقط على الخوذة والتى بها ثقب صغير لأن الحكومة الأمريكية تهتم بجنودها غاية الاهتمام لأن حمايتها لجنودها نابعة من احترامها لهم وحرصها عليهم، على حين أن الحكومة العراقية تمد جنودها بأرخص أنواع الخوذات والتى تعد تعبيرا عن حكومة لا تعير لحياة جنودها أى وزن.
جلست أفرك وأعدل فى محاضرتى لتتضمن الرد على كل ما قاله الجندى الأمريكى خاصة الغرور والصلف الذى كان ينضح بهما لسانه وكذلك النظرات التى وجهها لى فى لحظات بعينها فى محاضرته وكيف أنى راقبت عيون الطلبة الشباب حين سألوه عن المسدسات وأنواعها، وكيف أنه شئ بديع أن يجعلهم الجيش يلعبون بالأسلحة وأيدهم هو فى كثير من تصوراتهم الطفولية عن الجيش..جلست متحينا الفرصة للرد كما ينتظر الصائد بصبر التمنى.
لم أكن أدرى من أين أتتنى معلومة أن العلم العراقى مصنوع باليد وذلك تأكيدا على إحساس الاعتزاز الشخصى، لذا فهو ليس متقنا إتقان الأعلام التى صنعت بالماكينة.. وأيضاً قلت للطلبة إن محاضرتى لن تكون شيقة كتلك التى أعطاها لهم الجندى (آيرلندى) كان ذلك اسمه... وفاجأنى قطع أحد الطلبة لى قائلاً "إن عمل الجندى الأمريكى هو قتل الناس" ولم أرد أن التهم الفرصة وأوكد على ذلك حتى لا أبدو كمن يصطاد فى الماء العكر، ولكننى قلت للطالب وللفصل أن الحرب ليست باللعبة على الكمبيوتر وإن قرار الذهاب إليها يجب أن يكون آخر القرارات بعد أن تستنفذ الشعوب جميع الحلول "أليس كذلك يا سيدى" ووجهت كلامى إلى الجندى والذى أسرع بموافقة متعجلة... وأعدت له نفس النظرات التى أمطرنى بها وقلت إنه ليس هناك كاسب فى الحرب وإن الخسارة للجميع حتى من يعتبر نفسه منتصرا فهو يعود من ميدان الحرب منقوصا وإن شيئاً من إنسانيته قد فقد إلى الأبد .. ونظرت إليه نظرة متفحصة وقلت له "تبدو لى من الخارج كاملا تمام الكمال ولكن ما بداخلك أنت فقط أعلم بما نقصه".
رصاصة فى العمود الفقرى
تركت المدرسة وبداخل صدرى بركان لم ينفجر ولا يعرف بميعاد الخلاص وتثاقلت على همومى ولعنت الأيام وليس فقط الموقع الجغرافى، بل أيضاً التوقيت الميلادى وساءلت نفسى لما لم تلدنى أمى فى عصر "وا معتصماه" أو فى أى عصر حين كنا نضخ حضارة (بتعبير الصديق الغالى أنور عبد المغيث) لو كنت ولدت فى عصر كانت رقابنا فيه عالية بعزة وأنهارنا فيه محمية وليست مباحة, أشفقت عينى على النيل وأنا تركته ممتهنا بالتعديات التى أصبحت من قوتها وكثرتها بحكم الواقع وارتجفت خوفا من أن يأتى اليوم ويحمل أحد الجنود معه زجاجات من النيل أخذها عنوة بعد أن بيع الوطن كله.
مر الآن عامان وها أنا أخطو نفس الخطوات المرتجفة لنفس ذات المدرسة لأقف أمام جيل جديد من الطلبة وأيضاً من تجار المخدرات ولأجد المدرسين قد تقدم بهم العمر من المخاطرة اليومية فقط لكى يؤدوا عملهم...وجدت تقريبا نفس الوجوه التى حاضرت معى فى أول مرة ذهبت فيها إلى تلك المدرسة ووجدتنى أسأل مدير المدرسة عن الجندى (ايرلندى) والذى شاركنى فصولى فى المرة السابقة منذ أعوام, وجدته يخبرنى بصوت يملؤه التأثر بأن الجندى الآن قعيد كرسى متحرك على إثر رصاصة قناص عراقى من المقاومة أصابته فى عموده الفقرى وهو الآن مشلول مدى الحياة لا يبرح منزله.
يا ألله لم أستطع التعرف على الأحاسيس التى سيطرت على فور سماعى هذا الخبر وأكون كاذبا إن قلت إنها كانت أحاسيس "تشفى" خالصة ووجدتنى أشعر بحزن عجيب المصدر فأنا أعرف جيدا موقفى من تلك الحرب وكل الحروب التى عانت منها منطقتنا ولكنى لم أستطع أن أطهر إحساس التشفى الذى بداخلى من بعض الحزن الذى انتابه...وشعرت بحضور كل أنهار الأوطان المسلوبة والأولاد الذين يلعبون فى كل حوارى فقرنا واغتالتهم رصاصات الجشع والسيطرة ..اختفى إحساس الحزن وجلس محله إحساس تشفى خفت على نفسى منه.
سألت عن عنوان الجندى الأمريكى وقررت زيارته بنفسى وطوال المسافة من المدرسة حتى منزله وأنا أرى نظرات الصلف التى وجهها إلى قد تحولت إلى نظرات فاحصة لسجاد منزله ولا أدرى ما حل بعروق يديه وتذكرت النظرة الثاقبة التى وجهتها له حين قلت له إنه من الخارج يبدو كاملا ولكنه هو الأعلم بما نقصه من الداخل, هاهو خارجه أيضاً منقوص والكل يرى ويعلم ذلك وتساءلت إن كان هو الآن قد شعر للمرة الأولى بالتوحد مع الذى كان يعتبره عدوا بالأمس, هو لقى مصيراً كان يحسبه حين ذهب إلى تلك الأرض البعيدة والتى لم تعتد عليه بأى أنواع الاعتداء ترى ما كان يدور بذهنه عن الحرب حين وقع على ورقه انخراطه فى الجيش, هل كان ككل الطلبة التى التقيت بهم فى محاضراتى يبحث عن مخرج ... مرة أخرى انهمرت على الأسئلة ولكن لم يعادل أى منهم أسئلتى عن ضحاياه هو شخصيا وكان الأمل بداخلى عميقاً ولا أدرى من أين أتانى على أنه لابد سيتوحد مع المحتل العراقى ويشعر بأى ألم يمر به شعب بأكمله شعب بأنهار اغتصبت ونساء حوامل بمرارة اغتصاب الأوطان.
على كرسى متحرك كانت النهاية
علمت أنه ادعى عدم تذكرى لأن الفارق بين ما صرحت به شفتاه وبين ما عكسته نظرات عينه فارق كبير.. تفحصت منزله الذى لم يخل من اللمحة العسكرية فهناك إعلام لدول مختلفة وبطبيعتى تساءلت هل غزت أمريكا كل هذه الدول؟ صور له وهو فى المرحلة الثانوية دققت فى عينيه فى الصور وتوحد عيناه مع عيون الكثير من الطلبة الذين كان هو يداعب أحلامهم عن معيشة أفضل ورجولة ستتحقق من خلال سحق رجولة الآخرين.
كان الجزء الأسفل من جسده مستورا ببطانية ذكرتنى ببطاطين جيشنا نحن فى مصر... اختفى اتقاد الجشع من عينه وضعف صوته وكان يتشبث بكبرياء نعرف نحن الاثنان أنها كهلت رغم شبابه... خلفه كانت هناك أباجورة نور على ترابيزة صغيرة يتحلق حولها صوراً مختلفة له ولأقاربه ويتقدم الصور الزجاجتان الشهيرتان... كنت أقاسم النظرات بينه وبين الزجاجتين وبالتدريج بدأ حضور المياه داخلهما يفرض نفسه على الجلسة وبدا كما لو كانا شريكين فى حوار الصمت الذى تم بيننا...بل فى معظم الأوقات علا صوت الزجاجتين على صوتينا واعتلى صوتهما كل الأصوات... فى بعض الأحيان كانت ضحكاتهما تطرب أذنى وأعلم أنها تصم أذناه ...ترى هل أنا فقط الذى يسمع ضحكات مياه دجلة والفرات المحبوسة أم أنه الآن تولدت بينه وبينهما لغة مشتركة يمكن لهما من خلالها أن يصرحا له بكل ما يريدان.
تركت منزله مهتما بتفاصيل الأرض وكدت أجثو واهمس إليها "أحقاً أنت تشاركين أبناءك مهمة الدفاع عنك أم أنك صماء لا قول لك فى الدفاع" هل فعلا الأوطان كائنات حية تأبى الاحتلال وتعلن أنها مهما طال الزمن ستضحك فى آخر الأمر وسيذهب المحتل كما جاء منقوصا بلا قضية. لم يفلح صوت محرك سيارتى العالى أن يعلو على صوت ضحكات الزجاجتين فى بيت جندى المارينز الأمريكى وظلت تلك الضحكات تتردد فى آذانى لأيام طوال ملأتنى زهوا وأمل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.