*شوكت المصرى محمد عفيفى مطر عالمٌ شعرى خالص، نصٌ من نسيجٍ مغاير، جملةٌ وحدَهُ فى تاريخ الشعرية العربية على امتدادها وتميُّزها، مغامرةٌ ملؤها الكثافة والمعرفة والدلالة والتجريب والإبداع المتجدد، رؤيةٌ مُجاوِزَة لا تطمح فى التحقق بقدر ما تستهدف التأثير والديمومة، يرى كلَّ شيءٍ – كما يقول فى شعره- ولكنه لا يحب الوضوح، يستهدف الجوهر فى كلِّ شيء، فوحده ذلك الجوهر يستحق المكابدة الدائمة والاحتراق العظيم. زعم بعضٌ من النقاد استغلاق نصه لأنهم رمقوا مفرداته بأعينهم ليس إلا، بينما عايش الكثيرون ذلك النص فأورق فى أفكارهم وأثمر. تأبطَّ عفيفى مطرُ شعرَهُ فى كل زاويةٍ خطى فوقها سبعينَ عامًا، افترشه صيفاً والتحف به شتاءً، عصفَ بأحرفه كلَّ زبدٍ لاقاه، وبَرْعَمَ بمفرداته كلَّ نبت، جاوز به طبقات اللغة وطباق الجمال، معراجًا إلى الفلسفة والتاريخ والوجود اللامحدود، فحظى نصُّه بتأثيرٍ من نوعٍ خاص – مباشرٍ وغير مباشر- فى كل من قرؤوا له وسيقرؤون. جعل من اللغة وسيلةً وغاية، ومن الفلسفة سبيلاً وناتجاً نصياً، لم يحصر مشروعه الشعرى فى مقولات مشروع الحداثة العربية الذى ينتمى إليه، ولم يتحدد بجغرافيةٍ بالية، ولا بزمنيةٍ مجتزأة، وها هو الآن يخطوا فوق خمسةٍ وسبعين عاماً من الإبداع، بنصف قرنٍ من بهاء الكتابة افتتحه فى مطلع الخمسينات بديوانه "من مجمرة البدايات"، وأتبعه بأربعة عشر ديوانٍ شعرى كان آخرها "المنمنمات" الذى صدر منذ عامين عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، لكنه لما يزل عفيّاً مجدداً يكتب ويبدع وكأنه ولِدَ للتو على صفحة القصيدة، مفتتحاً بثلاثة دواوين قيد الصدور وهى "ملكوت عبد الله"، و"يقين الرمل"، و"فخاريات تذروها الريح"، مرحلةً جديدةً فى مشروعه الشعري، فها نحن اليوم نحتفى بك أيها الملك الشاعر والشاعر الملك، دمت سالمًا ومعطاءً، ومتجددًا يا أبا لؤي، وحسبنا وجودك بيننا بكل هذا الألق والتميز والإبداع، حسبنا ما تعلمناه منك كرامة الدم وإنسانية الوجود وعنفوانية الرفض، وحسبنا وصف أستاذنا الكبير الدكتور محمد فكرى الجزار لك بأنك واضع مصر على خريطة الشعرية العربية، دمت لمصر وللشعر ولنا، وإن كنا نهديك هديةً اليوم فلا نستطيع أن نهديك أروع مما كتبت لنا فى أحدث قصائدك إذ تقول: "لى خيمةٌ فى كلّ باديةٍ ولى كهفٌ ألوذُ بهِ ولى طللٌ وشاهدُ مدفنٍ وهديرُ كلبٍ حول نيران القِرى وأنا المغنى جامعُ الأشعارِ من متردّمِ الشعراءِ أروى ما رأيتُ لمن رأى وأنا ربيبُ الدمع كلُّ أراملِ الشهداءِ أُماتى على وترين أسحبُ قوسَ أغنيتى وأضربُ نقرةَ الإيقاعِ فى عظمِ الرباب وأنا يقينُ الرملِ : آخرُ نفخةٍ للخلقِ والتكوينِ منفردٌ وباقٍ ليس يغلبنى سواى .." هنيئاً لنا بك أيها المغنى جامع الأشعار أيها الباقى الفريد، وكل عام وأنت بخير وصحة وعافية.
