محمد عفيفى مطر يتعامل محمد عفيفي مطر مع قصيدته بطريقة خاصة فهو يؤسسها معتمداً علي تناص البنية مع النصوص المقدسة، والنصوص التي يشع منها جو طقوسي صوفي خاص، كما يحاور فيها كثيراً من الأفكار الفلسفية الكبري والأحداث التاريخية بالحياة البشرية. وفي تصوري أنه بهذا الصنيع يصبو- ليس لمجرد إبداع نص شعري- بل إلي ما يخلق دوائر متداخلة، تلحق نصه بهذه النصوص الغائبة المقدسة، فتضخ فيه من طقوسيتها وقدسيتها وطبيعة تكوينها، ويلتحم بها يحاورها فيقتبس مردودها علي نفس المتلقي وما حملته من إعادة تفسير العالم وصياغة حياة الإنسان، كما يشي بقدرته ورؤيته لذاته، التي تعالت في مشروعه الشعري لتتحد بالكون، وتفعل به، ويتوافق هذا التصور مع نظرة محمد عفيفي مطر لإبداعه من خلال النص ذاته من حيث الرؤية الفكرية العامة، فالذات الشاعرة في الديوان تري أن للشاعر دور الخلق والتأثير وربما النبوءة أو التجرد حتي مرتبة الألوهية الأرضية، له قدرة التأثير والخلق الذي يقربه من إعادة صياغة العالم وإعادة تفسيره يقول الشاعر :" إذا انفسحت في الكتابات نافذة الأفق بين/ ألتقية والسر، بين القناع وديمومة الرمز ../ فلتكبري في ظلام الكوابيس أيتها الشمس/ ولتنسجي عقدة الدم يارجفة للمخاض المباغت / يارجفة الدم الواعدة ". يمارس عفيفي مطر تأجيل المعني بصفة مستمرة كما يري النقاد. ليؤسس لمعني لا يريد أن يصرح به مباشرة، بل يلوح به من خلال بنية القصيدة وتقنياتها المختلفة، التي تؤسس لتبيان رؤيته لنفسه ونصه وحجم القدرة والتمكن بهما، لما قد يستدعيه من استنكار بعض التلقي يقول :" وابتدأت زماني :/ أنا صاحب العرش والصولجان / تفردت في الملك. ما من رعايا سوي شبحي / المتفلت في الظل والنور ، مملكتي الضِّدّ، رؤيا / اصطخاب من الإحتمالات ، مس جنون من / الإنتظار المرابط في عاصف المد والجزر ". يعول عفيفي مطر علي استخدام المجاز والاستعارات البعيدة الأطراف التي تحتاج إلي إعمال الذهن، تأسيساً علي اعتقاده أن هذا الصنيع سيتيح مديً دلالياً واسعاً وخلقاً إبداعياً غير معهود، وهو إذ يتكأ علي الصور البلاغية ينحو منحيً سريالياً، يعتمد علي المتتابعات المتوالية للصور التي تتأسس من خلال بنيه شكلية تعتمد علي نماذج البدائل النحوية المتكررة ويترك قريحته تأتي بتداعياتها الحرة المنطلقة، بَعُدت المسافات أم قربت بين أطراف صوره أو تشبيهاته، يقول الشاعر:" للبلاد أطراف مبللة يغمرها الماء:/ جدائل مخلولة في البحر تترسب عليها / بلورات الملح الفضي فيشتعل الرأس شيباً / والطمث لما ينقطع / أقدام مرتخية تتناسل بين أصابعها السراطين / والكائنات الهلامية والصوفية / وغراء الزواحف المتسافدة والأعشاب المتوهجة " وبينها وبين الخطوة مسافة دم لا يجيء / فم يتقرح في شفتيه خُرَّاج الكلام وتعشش / الطيور بين أسنانه المفلَّجة. وينمو الطحلب / والنخل علي بقايا الفرائس / وبينه وبين البلاغ مسافة صرخة مطفأة في / الذاكرة لا تعلو"، تلك هي حال البلاد وأطرافها لما ينقطع الطمث ، ويحط اليأس عليها كما يراها محمد عفيفي مطر، ويحشد الشاعر من أجل تخلق مشاهده المتكوَّنة المصوَّرة العديد من الاستعارات التمثيلية المتوالدة، التي تظهر بدائل تتوالي وتتواصل لتصنع هذه المجازات الذهنية المتضامة بعضها إلي الآخر، و إذ يلجأ الشاعر للاختيار الغرائبي في صوره، يتغيا بلورة معانٍ بكر، تثير الحس والذهن معاً " فم يتقرح في شفتيه حزاج الكلام وتعشش الطيور بين أسنانه". ويعتمد عفيفي مطر علي الاضافات المتوالية في تخليق مشاهده المجازية، ومن الطبيعي أن تمثل كل إضافة تنوعاً وخلقاً غير متواتر أو معهود ، نفياً لجمود القولبة في التركيب المجازي التصويري والمشهدي الأعم، يقول " نحن القميص المرقط بالأنجم المزهرات وبالشجر الرطب، والدرر، نحن الخلاء المقدر بين المجرات / والنغم المنتشي في مسير الكواكب / نحن انفجار الحضارات في اللغة البكر ....". وأتصور أن هذا التوالي للصور المجازية، وهذا التعدد بالإضافات، بقدر ما يسهم في إثراء المعني وكثافته، قدر ما يجعل القصيدة المتكئة علي هذا النوع من الشعرية في منطقة قلقة مضطربة من حيث التلقي ، تلك المنطقة التي يناقش فيها حد النقطة التي تحدث معها قطيعة بين القصيدة ومتلقيها، هذه المنطقة كثيفة الدلالات الغامضة التي تطرح فيها مفهوم تحقق المتعة في الفن والشعر علي وجه الخصوص. إن هذا التكثيف الدلالي الذي يحشده عفيفي مطر قد يؤدي فيما أري لنوع من التشتت الدلالي ، وخلق حالة من تكدس المعاني المتوالية التي يذهب تعددها المجتمع بجمال مفرداتها كل علي حدة أو بالصورة المفردة المتأنية المتعمقة في رصد تكونها وبكارتها في ذاتها ، هذا التكدس يؤدي بجمال التفرد ، بجمال الاقتناء لمعني مفرد قد انطبع وحفر في الوجدان لأنه قد صُهِرَ، وتعامل الشاعر مع أطرافه بتؤده، والتقاط مالايراه الأخرون، وصقله برؤي مغايرة، كما أنه ركزت عليه الأضواء ولم يعرض معه مئات من الصور، الذي أعنيه أن فترينة عرض تتيح لقطع مجوهراتها المتفردة نوعاً من الظهور اللائق والبراح الممتع والزوايا المختارة بعناية تعطي فرصة لمقتنياتها الظهور في وضع مبهر وتشي بتفردها وما تتيحه من متعة . كما أن هذا الصنيع المكثف مع المجاز المجدول والمضفر بالتناص التفاعلي والذي تحمله ألفاظ ومفردات جزلة تراثية، غير متداولة الاستخدام في بعض الأحيان يذهب بتركيز المتلقي وتضيع البدايات مع المتواليات المتتابعة، ويضيع أيضاً البناء الهيكلي العام للصورة الكلية أو بناء القصائد ذاتها مع كل هذا الحشد الغرائبي للمتباعدات من العلاقات التي تقوم عليها الصور. أُدرك كما يدرك القارئ أن معالجة التفاصيل، وإبراز مكامن الأشياء والإحاطة بما لا يلتقطه الناس بالأشياء هي الاختبار الحقيقي لنوع من أنواع الشعرية العميقة التي تقر بالنفس، وتترك انطباعات شفيفة راسخة، والتفاصيل دائماً ما تكون مؤرقة، كما أنها تشكل مَحَكاًّ لقدرات من التمكن الشعري الذي يتخير مفرده وزاوية التقاط خاصة ويترك إبداعه يجلوها بخلق العالم المغذي والموضح لها حتي وإن بدت حسية وواقعية ، هناك من الشعراء من يملك هذه القدرة، وهناك من يملك القدرة علي خلق حالة من التضام والإضافات التي لا تنتهي ، والمبدع الحقيقي لا يخلق هذا عبثاً. وأتصور أنه مع محمد عفيفي مطر ونظراً لرؤيته الخاصة في هذا الديوان التي يتحدث فيه عن ذات شاعرة تعد جُزَيْئاً من جزئيات الوجود اللامتناهية، يتحد بكل الموجودات، يتناغم ويصادق ويحاور الريح والبحر والنار والجسد والرغبة والشجر والطير وكل الخلق، ويعبر عن وجد شاعر في أن يخلق عالماً جديداً يكفل فيه لوطنه ومجتمعه حياة حرة كريمة يحتل بها الإنسان موقعه الرائق، نظراً لتلك الرؤية تحيز هذا التعدد وهذا التوالي و هذا الإغراق والتداخل في العلاقات متباعدة أو غير متباعدة، فكلها موجودات وإن تعددت وتغيرت صورها تشكل وحدة منصهرة ، وخلقاً متفرداً، كما أن حالة تعدد المجازات وتراكمها يخلق نوعاً من المرواغة والعبارة التي تستر أكثر من أن تفضح وهو ما يسعي إليه. - يبدو هذه النوع من العلاقات في القصيدة المطرية التي تقوم كلها علي المجازات والبدائل والإضافات بين أشياء متخيلة ومتباعدة ، تبدو نوعاً من البعد بقدرما عن هموم الإنسان الحقيقية أو اليومية، علاقات لا يراها المتلقي ولا يلمسها ولا يُحِسُّها، علاقات ذهنية تبعد مسافة أو مسافات عما يلمسه في واقعه وفي حياته اليومية، بالرغم من أن الشاعر يتماس مع قضايا إنسان مجتمعه لكنها معالجات في المطلق، تجريدية غير ملموسة، ويخلق هذا النوع _ كشأن نظرات في الفن _ نوعاً من التعالي علي الحياة المعيشة بالفعل ، وهروباً من أجل اندماج وحلول واتحاد بحياة أخري متخيلة، لا يستطيع أن تستوعبها مستويات كثيرة في التلقي وحينئذ تثار قضية الغموض. إن هذا النوع من الشعرية والذي مثله تيار الحداثة أوجد مسوغات مراجعة تيار الحداثة لنفسه وظهور تيار ما بعد الحداثة في الفنون الذي كان هاجسه الأهم المجسد المادي . ويحوُّل هذا التكدس والتوالد للمجازات في القصيدة عملية التلقي إلي نوع من كشف الألغاز، ويتراوح التلقي بين مُتَلَقٍّ يصبر علي النص ويتخلي عن مقعده الوثير المريح، ويعاود قراءة النص والديوان لعشرات من المرات حتي يستطيع أن يشعر بالفهم والمتعة، ولنا أن نشير إلي أن الفهم والتعامل مع العقل يترك نوعاً من المتعة الحقيقية التي يجب ألاَّ نستهين بها. وبين متلقٍ ثانٍ يشعر بالغموض الكثيف الذي معه تنغلق نوافذ النص ويستحيل أمامه إلي مجموعة من الألغاز، ومعها يصاب بالملل وعدم الفهم، ويترك الديوان عجزاً عن الفهم الذي تنتفي معه المتعة، ومتلقٍ ثالث يمكنه أن يلتقط بعض الخيوط إذا صبر علي القصيدة في الديوان، لكنه سيشعر أنه عالم متباعد عن عالمه، غارق في المجازات والأفكار الفلسفية والصوفية المتخيلة التي تتباعد أمام فهمه وتفاصيل يومه واهتماماته الإنسانية البسيطة والمتداولة . يقول محمد عفيفي مطر في قصيدته " مفتتح ثان" في " فرح بالتراب" أنا المولود من أربعين امرأة / أتربص لهذيان التذكر وجموح الأشكال / فالأرض محدودبة علي حصاد الموت وقوارير / الظمأ المعتق"، لا نستطيع أن نصف الصورة في هذه السطور الشعرية بالإلغاز، أو الغموض المغلق ، خاصة إذا لم نقتطعها من سياقها العام بالقصيدة، لكننا نستطيع أن نصف هذه الصور بأنها مرهقة للتلقي، غير محددة المعالم تحتمل تعدد التأويل واحتمالات المعني، فهي متباعدة الأطراف، ولا يعد هذا عيباً في الشعر، بل قد نحسبه إجادة من الفنان فهو يرمز إلي المتعة التي لا تتيح نفسها بسهولة لكن توالي هذه الصور هو ما قد يسبب حالة التباعد بين المتلقي والقصيدة . تتوافر في الصورة المجازية المطرية البكارة وبعدها عن المألوف الذي استهلك وعافته الأذواق، لكنها تتوافر فيها أيضاً تعبيرها عن موضوعات يتناولها في معظم مشروعه الشعري تتسم بالالتباس والتأويل ووقوعها في مناطق الحيرة والقلق فهو يضع إبداعه لقصيدته في مكانة تشبه النبوءة، أو عمليات الكشف العرفاني، التي تجعله متصلاً بالقوة العليا في هذا الوجود، فهو حين يتحدث عن التفعيلة أو هذا الدفق الشعري الذي يأتيه يقول متمنياً ومقرراً وواصفاً حاله لَيْلَتَيذٍ كنت تورية شَفَّ إيحاؤها عن طلاسم / مجد قديم من العشق أُنسيته وبلاد وأعمدة من / رخام ورمل وأدعية كنت مكنونة في اشتهائي / وطالعة من قوارير عطر تعتق في أزل الشرق / ../ شفت مجازاتها، أخذتني بروق من الوجد والخوف، / وانقدحت آهة تتنزل بالدهشة الراعدة / وكَّفاك من رحمة الغيم تستبدلان دماً بدم / وسماء بأخري، تخطان فوق جبيني أرضاً هي / المحو للعمر والطلع في نخلة للبدايات والفجر ". الواقع المجازي الذي يشكل به عفيفي مطر إبداعه أختيار جبري لا فكاك منه ، لأنه يعبر عن رؤي لا تحتمل التحديد أو المعاني والواضحة المعالم ، لذا تحتم أن تأتي الصور للستر والمراوغة، للتعبير عن مواجدات ومكاشفات هلامية الأطراف، ولذا تحتم التراكم والتعدد والتوالد ليمسك الشاعر أو يوحي لنفسه ولقارئه أنه يمسك بأطراف ليست ذات وجودٍ مادي متعين لكنه يحاول الإحاطة بها عن طريق تلك العلاقات التي يعقدها بين الأشياء بَعُدت أم قَرُبت . تبدو الانتقالات في القصيدة المطرية في النظرات الأولي مباغتة وغير مترابطة مما يدفعني إلي القول _ برغم أن الانتقالات الشعرية عادة ما تكون سريعة ومباغتة وغير ذات ترابط مباشر _ إن للقصيدة المطرية من سمات المجاز التصويري المركب والتناص الاندماجي مع نصوص أخري، ما يوفر لها جواً ضبابياً غامضاً، وعندما يتكاتف هذا مع الانتقالات المباغتة بين الموضوعات الخاصة والعامة يقع المتلقي في لبس مشتت ومؤرق ويتضاعف هذا الشعور عندما تكون الانتقالة في إطار أساليب بلاغية مركبة مثل التساؤل أو التعجب. يقول عفيفي مطر في " مفتتح أول " تحت عنوان " فرح بالتراب " وأعتذر عن بتر أجزاء من القصائد من سياقها العام لكنها ضرورة لعدم استطالة الدراسة:" أربعون بابا أجيئك منها بعدد السنين / أكتسي دماً ولحماً وأتكلم ولا أولد ./ شمس منتصف الليل وقمر الظهيرة :/ هل هذا هو اقتران الوطن بالنفي / واللغة بفزع الكهوف ؟! هل هو ميقات استطالة الظل أم موعد / لفطرة الينابيع أزفت تَفَجُّراتُهُ". تتوالي طبقات الغموض علي النص المطري مما يستدعي ضرورة فك هذه الاشتباكات المتوالية ليحيط القارئ بمتعة هذه الشعرية المركبة، الانتقالة من حديث الشاعر عن نفسه، ليقرر أن هناك مستحيلات " شمس منتصف الليل وقمر الظهيرة " ثم التساؤل التعجبي المستنكر " هل هذا هو اقتران الوطن بالنفي.