لعل أفضل مدخل للحديث عن كتاب "حصيلة الأيام" للكاتبة التشيلية الشهيرة إيزابيل الليندى، الصادر حديثا عن دار "المدى" بترجمة صالح علمانى، والذى صدرت منه ترجمة إنجليزية منذ عدة أيام عن دار هاربر كولنز، هو ما ترويه إيزابيل نفسها عن الحكايات التى كانت ترويها لأحفادها قبل النوم، وفق نظام دقيق.. عادة ما يعطيها أحفادها ثلاث كلمات أو موضوعات منفصلة تماما، وتقوم هى فى خلال عشر ثوانٍ باختراع حدوتة تتضمن هذه الكلمات الثلاث.. وهو ما شجعها بعد ذلك - كما تروى- على إصدار روايات "المغامرات الثلاثة" الموجهة للفتيان والشباب والتى حققت نجاحاً عظيما عند نشرها. إيزابيل لم تتعامل مع قرائها فى كتاب "حصيلة الأيام"، وربما فى معظم أعمالها، أكثر مما فعلته مع أحفادها قبل ذلك. فهى فى العادة تصحبك من يدك كما طفل صغير، وتمضى معك فى أروقة حياتها الخاصة، تروى تفاصيليها الخاصة، المتشابكة لعائلتها.. بحميمية وصدق.. تستثير حنانك حين تحكى، وتنتزع إعجابك بحرفيتها، وهى تصنع من كل شخص حكاية منفصلة ومكتملة.تستخدم- وهى ابنة شهرزاد الوفية - سطوة "الحكاية" وتستلب القارىء تماماً ليندمج فى عالمها، الذى سرعان ما يتبين أنه ليس عالماً سعيداً تماماً!. يبدأ الكتاب - والذى ينتمى لفن السيرة الذاتية - فى صيغة اليوميات منذ عام 1992، عام وفاة ابنتها "باولا": الحدث الأكثر وجعاً فى حياة إيزابيل الليندى، ويمضى الكتاب حتى آخر سطر بضمير المخاطب، حيث تتحدث إيزابيل إلى ابنتها الراحلة "باولا"، وكأنها تحكى لها ما فاتها من أيام معهم، أو أنها كانت تحاول بالكتابة أن تسترد ما فقدته فى الحياة، وتظهر بوضوح قيمة الكتابة فى حياة إيزابيل الليندى ورؤيتها لها. تقول: "يمكن لأى شخص أن يزعم أن كتابة الروايات سهلة..إننى أقضى عشر ساعات يومياً "مسمرة" إلى الكرسى، أقلب الجملة مرة وألف مرة؛ كى أتمكن من رواية شىء بأشد الطرق الممكنة فعالية.. أعانى فى الموضوعات، أغوص بعمق فى الشخصيات، أتقصى، أدرس، أحرر، وبعد هذا كله أجوب العالم لتنشيط مبيعات كتبى بعناد بائع متجول". ثم تتحدث عن رعبها من فكرة أن يجف أو ينضب بئرها الأدبى والقصصي، وهو ما حاولت التغلب عليه بالسفر والترحال إلى مناطق جديدة وأناس جدد يتحدثون لغات لم تسمعها من قبل وكانت ثمرة رحلتها للهند كتابها الشهير "أفروديت". الكتابة صنعت من إيزابيل نجمة، لكن يبدو أنها لا تشعر بذلك، فهى تتحدث بأسلوب شديد المرح عن النجوم الذين قابلتهم فى حياتها، سواء ممن قاموا بتمثيل رواياتها على شاشة السينما أم غيرهم. تتقمص مراهقة صغيرة وهى تتحدث عن أنتونى بانديراس وإعجابها بذكورته العصية على المقاومة، إعجابها بميريل ستريب التى قامت بدورها فى فيلم "منزل الأرواح" المأخوذ عن روايتها بذات الاسم، وتثير فيك بهجة من نوع خاص وهى تتحدث بغيرة عن صوفيا لورين التى كانت معها ضمن فريق يحمل الشعلة الأولمبية وتتعجب من قدرتها على الاحتفاظ بقوامها وبشرتها النضرة بعد مرور كل هذه الأعوام. تستخدم الليندى بناءً روائياً يبدو لأول وهلة متناثراً، ثم يتكشف لك أنها تسيطر على خيوط القصة بحرفية وإحساس من البداية للنهاية.. تروى بتفاصيل لا تنقصها الحميمية عن قبيلتها الخاصة: زوجها المحامى الأمريكى ويللى جوردان، أبناؤه المرهقون.. ابنته جنيفر مدمنة المخدرات المفقودة.. تتحدث عن ابنها نيكو وزواجه ثم طلاقه.. مرضه ووقوفها بجانبه.. تفتح لنا نافذة خلفية لنتعرف بصورة أقرب للواقعية على المجتمع الأمريكى متعدد الثقافات من خلال أصدقائها ومعارفها فو وجريس البوذيتان المثليتين، تونج الصينى وزوجته القادمة حديثا من الصين الشيوعية، صديقتها الأمريكية تابرا التى تريد الهجرة من أمريكا وربما التخلى عن جنسيتها الأمريكية حتى لا تكون متواطئة مع ما ترتكبه هذه البلاد من جرائم. إيزابيل لا تمر على السياسة فى هذا الكتاب إلا بقدر ما يتماس مع سيرتها الذاتية، بعفوية هى أقرب للانطباعات العامة منها للتحليلات السياسية، ولكنها تفتح لنا مجالاً كاشفاً فى الكثير من المواقف، خاصة فى آخر الكتاب، عندما تتحدث عن هجمات الحادى عشر من سبتمبر والحرب على أفغانستانوالعراق. وتبدو ملاحظاتها بالغة العمق حين تحدثت مثلا عن قرار عمدة سان فراسيسكو بفتح الباب لزواج المثليين وكيف كان تم توظيف الهجوم على هذا القرار من المعارضين فى اليمين سببا رئيسيا لنجاح بوش فى انتخابات 2004. تقول: "المذهل أن هذا الأمر كان له وزن أكبر من الحرب فى العراق عند التصويت وهو ما يكشف أن الديمقراطية الأمريكية ليست ناضجة ومن السهل التأثير عليها". "حصيلة اليام" يخفى تحت بساطته وحميميته عمقاً وانفعالاً صادقاً بكل ما يمر بحياة كاتبة استحقت أن تكون علماً على اتجاه جديد فى الكتابة فى أمريكا اللاتينية. موضوعات متعلقة: ◄إيزابيل الليندى:"ألف ليلة وليلة" أدخلتنى عالم الرواية والإسلام مصدر للفنون والآداب الاستثنائية.. والأزمة فى الذين يتحدثون باسمه( نص الحوار..) ◄الروائية العالمية ايزابيل اللندى ل "اليوم السابع" ◄روائيو أمريكا اللاتينية يدرسون الأدب.. بينما يستغرق الأديب العربى فى سيرته الذاتية ◄أدب أمريكا اللاتينية أكثر مصرية من الأدب العربى