"المكرونة والرز أسعارهم غليت، الناس غلابة وعندهم عيال كتير، بيشتروا العيش أرخص، عيالهم ياكلوه حاف، أو يغمسوه بأى حاجه". بهذه البساطة لخص "عم كرسون " أسباب الأزمة مضيفاً "اللى كان بيشترى بجنيه بقى بيشترى باتنين، واللى كان بيشترى باتنين بقى بيشترى بأربعة، الناس خايفة ييجى بكرة ميلاقوش عيش فى الفرن فيشتروا أكتر، وحصة الدقيق زى ما هى، يبقى لازم يبقى فيه زحمة وطوابير". بدا اسمه غريبا، فسألته " اسمك كلثوم يا حاج؟"، فرد: "لا يا بنى كرسون"، وكتبه فى أوراقى بخطه المهتز الذى لا يدل على تعليم نظامى، هو صاحب مخبز بلدى، وهذا أنسب وقت للحديث معه، فأزمة الخبز على أشدها، وبيانات الحكومة ووزارة التضامن واضحة: "أصحاب المخابز جشعون، مستغلون، يبيعون الدقيق المدعم فى السوق السوداء، يحرجون الحكومة ويصطنعون أزمة العيش". داخل المخبز كان "عم كرسون" يشرح لى اسم ووظيفة كل عامل، "العجان" يعد العجين، ويزوده بالخميرة التى "رباها" ليلة أمس، و"الخراط" يقطع الأرغفة - يدويا - بعد أن كان يستعين بماكينة تقطيع، فقد ساء حال الدقيق الذى تمدهم به مديرية التموين، ليتحول الدقيق الأبيض إلى دقيق أسمر خشن، "السحلجى" ينتشل الخبز الساخن ويلقيه أمام "البائع" الذى يتولى توزيعه على الناس المتلهفين خلف الشباك الحديدى، بجنيه واحد لكل فرد، و"عم كرسون" يتنقل بين الجميع بخفة ونشاط عجيبين، الزحام أمام المخبز لا يصدق، شباك التوزيع يعج بالمتزاحمين، شجار وعراك وصراخ: "كده حرام والله، أنا هنا من ستة الصبح، وأنا من بعد الفجر، حتى العيش مش لاقيينه". درجة الحرارة وصلت لأربعين، قالها زميلى المصور أحمد إسماعيل، يجرى "عم كرسون" إلى المتشاجرين، يحاول تهدئتهم، مؤكدًا أن الجميع سيحصل على الخبز، الطاولات الخشبية تمر أمامى حاملة الأرغفة المعدة لدخول الفرن، وعامل يفرغ جوال دقيق جديد فى "العجانة الضخمة" فيقفز السؤال من رأسى إلى لسانى:ماذا عن بيع أصحاب المخابز للدقيق المدعم فى السوق السوداء وتلاعبهم بوزن الرغيف؟ فيرد على "صوابعك مش زى بعضها"، ويستدرك عم كرسون :أيوه فيه ناس بيعملوا كده، بس قليلين، ومش كلهم طماعين، ما انت لازم تدفع لمفتشى التموين، فيهم اللى عنده محاضر وغرامات ومش عارف يدفعها، متنساش أجور العمال اللى زادت بسبب ارتفاع الأسعار، عندك مثلاً يومية "الخراط" و"الفران" ارتفعت إلى 50 جنيها، وارتفعت أجرة "العجان" ومساعده إلى 35 جنيها، بينما أصبحت أجرة البائع 45 جنيها، وكمان تمن المازوت زاد أوى، ولغوا حصة الخميرة وباشتريها على حسابى، والإيجار والكهرباء والضرائب، إحنا أقل محضر بيتعملنا ب 2700 جنيه وانت طالع. سألته: تقصد مفتشى التموين؟ يرد فوراً "يخرب بيوتهم يا شيخ، بيدخلوا وناويين على مصيبة، يتلككوا على أى حاجة، يعنى لازم أى محضر والسلام، ولو قلت نص كلمة يبقى تعدى، يعنى محضر تانى، وممكن يتقفل فيه الفرن، تعدى على مفتش التموين هو تعدى على السيد وزير التموين"، يزفر بحرارة وهو يقول "هنعمل إيه بناخد على دماغنا ولازم نسكت". لكنه يعود ويستدرك: "مش كلهم وحشين، فيهم ناس محترمين وبيخافوا ربنا، بس قليلين جدا، والباقيين لو مخدوش اللى فيه النصيب، يطلعوا القطط الفاطسه فى أى حاجة، ولو فلت من الأول مش هفلت من التانى والتالت، علشان كده بقولك إن أصحاب الأفران مش بإيدهم حاجة". لكن ده ما يمنعشى إن فيه أصحاب أفران طماعين، قلت له، فرد بسرعة: " صح يا أستاذ بس مش دول اللى هيعملوا أزمة العيش فى البلد كلها، لأ.. أنا عمرى ما عملت كده، بقالى 20 سنة فاتح الفرن دا وعمرى ما جالى محضر تهريب دقيق والحمد لله". ما هو سبب الأزمة؟ - يجيب عم كرسون بهدوء" بقينا كام وسبعين مليون، حصة الدقيق بتاعتى مازادتش من 5 سنين، وكمان الدقيق بقى أوحش، يبقى لازم تحصل أزمة، فى الخارج لم يكن الزحام يقل، بل يزيد، ويزيد معه الشجار الحامى، فيستأذننى ليفضه، وعندما عاد قال: الناس عاوزة تاخد عيش مرة واتنين، بيخزنوه فى بيوتهم، ما ياخدوا على قدهم وييجوا ياخدوا كل يوم.. هو العيش هيطير؟!". قولى يا "عم كرسون" ليه العيش بيطلع فيه مسامير وأجسام غريبة، انتوا مش بتنخلوا الدقيق قبل ما تخبزوه؟ يضحك: "دقيق ايه اللى ننخله يا أستاذ، لو نخلناه يروح نصه، المسامير والحاجات دى بتيجى من المطحن، هو القمح عفش، فبيطلع دقيق عفش، إحنا ذنبنا إيه؟". للمخبز أنظر نظرة أخيرة، قبل أن أمضى فى طريقى، وجملة "عم كرسون" الأخيرة تتردد فى رأسى مرات ومرات.. بينما يتزايد الزحام.