يعرف الدكتور جابر عصفور أننى أحد محبيه، وإن لم أكن من زائريه الذين كانوا يتوافدون عليه، أثناء أمانته للمجلس الأعلى للثقافة. ولم أتقدم له بطلب واحد طوال تلك الفترة، كأن يصدر لى كتابا مثلا، أو للتساؤل عن عدم ترشيحى للسفر للمشاركة فى مهرجانات الشعر العالمية العديدة، أو حتى للسؤال عن عدم ضمى إلى لجنة الشعر بالمجلس، حتى جائزة الدولة التشجيعية التى حصلت عليها لم تكن فى عهده، مكتفيا بمحبته عن بعد، وهو الناقد الكبير والمثقف البارز، وصاحب مقولة أنه "لا توجد حداثة واحدة، بل حداثات"، وهى المقولة التى كانت ولا تزال تتناغم، وتصورى لمفهوم وجوهر مصطلح الحداثة. لذلك أسمح لنفسى اليوم، وقد اطلعت على تحليله لمرجعيات حادث نجع حمادى المؤسف، والمنشور فى موقع اليوم السابع صباح الأربعاء 20/1/2010، وذلك ضمن فعاليات ندوة أقامتها الدار المصرية اللبنانية بالمجلس ، حيث يرى الدكتور أن هذا الحادث "هو نتاج للحوار الثقافى المصرى المتخلف"، متعجبا من المثقفين والدعاة الذين يتحدثون عن الحرية، وحق إبداء الرأى والتعبير، والاختلاف مع الآخر، ولا يفعلون ما يدعون إليه، داعيا إلى "إعادة صياغة الحوار الثقافى فى مصر، خاصة فى الموضوعات التى تدعو إلى التقدم " ، مضيفا " أن الثقافة المصرية فى أردأ حالاتها". يسمح لى بمحاورته، فهذا الكلام رائع، ولا يختلف عليه اثنان عاقلان، وهو ما يفتح شهيتى لمحاورته، لأوجه له – بكل مودة واحترام – تساؤلين اثنين سيتسع لهما صدره الرحب بكل تأكيد: أولا- أوافقك الرأى أن ذلك الحادث الإجرامى البشع، والذى آلمنا جميعا، هو نتاج حالة ثقافية متخلفة، يشارك فيها مثقفون ودعاة يتظاهرون بمناصرة حرية الرأى والعقيدة، ثم يفعلون النقيض. وإذا نحينا جانبا الدعاة، بحكم تكوينهم المعرفى الذى يغلب عليه الجمود والتقولب، وسيطرة ذهنية التحريم على بنيتهم الفكرية التى شكلتها "ثقافة التحرج"، "فى مواجهة ثقافة التحرر"، على حد قول الدكتور صلاح فضل. إذن، سنقصر حديثنا على المثقفين، وأنت من رموزهم المتميزة، لنسألك وقد كنت أمينا للمجلس الأعلى للثقافة لفترة طويلة، أى قريبا جدا من "مطبخ " صنع القرار الثقافى ، بل ربما كنت أحد كبار صانعيه، نسأل: وأين كان المجلس الأعلى للثقافة ، ومناخ الاحتقان الطائفى يتسع ، ويتوحش، حادثا بعد حادث ، ألم يكن جديرا بالمجلس الأعلى أن يكرس الكثير من جهده للتنادى بتأسيس ثقافة الحوار الخلاق، ونشرها بين جموع الشعب، واعتبارها مشروعا ثقافيا حضاريا لوأد الفتنة فى مهدها ، بدلا من الاكتفاء بعقد الندوات "النخبوية" فى قاعات المجلس، المعزولة عن الناس، وهم أول من يحتاجون إلى ثقافة الاستنارة؟ ألم يكن مطلوبا من المجلس أن ينتقل حيث توجد الجماهير وخاصة فى أماكن عبادتهم: مسجدا أو كنيسة، للحوار المباشر، الحوار الخلاق والصريح لتطهير العقل الدينى من جرثومة التكفير المتبادل واحتكار الحقيقة؟ ثانيا- وصحيح أن الكثير من المثقفين- مع الأسف- يخذلون شعبهم، فيفعلون سرا ما لا يقولونه فى العلن، مما ينتج حالة ثقافية متخلفة، لذلك أسألك، وبكل محبة، وهل تتفق ثقافة الاستنارة والحداثة والإبداع التى تعد أنت من كبار روادها، هل تتفق وترشيحاتكم غير الموفقة لبعض العناصر لتولى مناصب قيادية هامة فى وزارة الثقافة، عناصر تفتقد الحد الأدنى من المعرفة الثقافية والإدارية، وأخلاقيات الاستنارة والحداثة والتجرد والنزاهة، وتغليب الصالح العام على المصلحة الشخصية، خاصة إذا تعلق هذا الاختيار بتحمل مسئولية هيئة كبيرة، تعد الأضخم حجما والأخطر دورا فى تثقيف الجماهير. نعم..الجماهير التى تفترسها الآن ثقافة التطرف والتكفير فى القرى والنجوع والكفور، كنتيجة طبيعية لإخفاق الهيئة التى يعرفها الجميع فى القيام بدورها لصياغة عقل ثقافى وحضارى ودينى مستنير، ألا يعد هذا يا سيدى: تناقضا صارخا يصيب رسالتكم التنويرية فى مقتل؟ألست معى : أن فاقد الشيء لا يعطيه، ولعلك تدرك ما أقصد تحديدا..! ثالثا- وإذا كانت الثقافة المصرية فى أردأ حالاتها وهذا صحيح، ألا يحتاج ذلك إلى التدخل لإعادة النظر لدى صانع القرار الثقافى، لصياغة عقد ثقافى جديد، يخرج بالعمل الثقافى من نخبويته ، سواء على مستوى المفاهيم أو الحركة ، للانخراط وسط أهلنا البؤساء الذين تركناهم ضحية لناشرى ثقافة الموت من " الكشح" إلى" نجع حمادى"، مع ضرورة اختيار قيادات ثقافية جديدة جديرة بتحمل هذه المسئولية ، وإزاحة العناصر القيادية الفاشلة التى "تشخصن" قراراتها، والتى تتباهى علانية بأنها جاءت إلى مناصبها من خلال ترشيحاتكم لها. إن الوقت وقت جد لا هزل، وبلادنا فى محنة، وكلنا معرضون لتداعياتها الكارثية إن لم نمتلك إرادة المبادرة الشجاعة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، واللبيب بالإشارة يفهم..!