تدور حاليا محادثات تقريب وجهات النظر بين الفصائل الفلسطينية فى القاهرة، تحت إشراف الحكومة المصرية، وقد استمرت هذه المحادثات لعدة أعوام دون أن تصل إلى أى نتيجة. وتنقسم القوى السياسية الفلسطينية التى تحاول مصر التوفيق بينها والموجودة على الساحة إلى معسكرين رئيسيين، لكل منهما قواه المؤيدة، ولكل منهما توجهاته السياسية وأيديولوجيته الاجتماعية واستراتيجيته العسكرية، كما أن كل منهما يجتذب إلى مساره بعض الفصائل الأخرى الأصغر حجما.. معسكر فتح، ويتكون أساسا من القوى التى كانت فى السابق تساهم مع غيرها من القوى الفلسطينية الأخرى فى العمل المسلح ضد العدو الإسرائيلى المغتصب للأرض والمحتل لها، إلاّ أنها انسلخت أخيرا عن هذا المسار، ووضعت أسلحتها أرضا وسارت فى ركاب التسوية لأكثر من عشرين عاما لم تحصل خلالها على متر واحد من الأرض، وهى الآن تحت قيادة الزمرة الحاكمة من القوى العلمانية المنبطحة، التى تؤمن بالعيش الرغيد فى ظل الاستعمار مع رواتب شهرية بعشرات الألوف من الدولارات لكل مسئول تبعا لدرجته فى سلم التعاون، ومع تمكين الأبناء من القيام بالمشاريع الاقتصادية والتجارية فى الضفة الغربية ومنحهم قطاعات الترددات اللاسلكية المطلوبة. الغريب فى هذا المعسكر أنه تحت قيادة محمود عباس الذى كان فيما مضى أحد الفدائيين الفلسطينيين الذين اختطفوا الباخرة أكيلى لاورو حيث تم إعدام أحد الركاب الأمريكيين اليهود الذين كانوا على متنها، وحكمت إسرائيل بالإعدام على محمود عباس الذى كان يسمى فى هذا الوقت بأبومازن، لكن كيف غض الإسرائيليون الطرف عن هذا الحكم بالإعدام وجلسوا مع محمود عباس للتفاوض، ثم كيف طلبوا منه بعد ذلك القيام باغتيال ياسر عرفات بمساعدة محمد دحلان بدس السم له لوقوفه فى صف المقاومة فى وجه السلام الإسرائيلى الكاذب المفروض، بنص شهادة فاروق القدومى، الرئيس السابق للدائرة السياسية فى منظمة التحرير الفلسطينية، فهذه قصة أخرى، ونظرا لطبيعة ولاء القيادات السياسية لهذا المعسكر فإن إسرائيل لا تغتال أى منهم ولا تعتقله، بل يتمتعون بالعيش الرغيد مع رواتب بعشرات الألوف من الدولارات إلى جانب الملايين الأخرى المسلوبة من مخصصات الشعب الفلسطينى التى قدم بياناتها التفصيلية موثقة على شاشات التليفزيون السيد / محمد نزال عضو منظمة حماس. معسكر حماس، وهو يجمع إلى جانب حماس العديد من فصائل الكفاح المسلح وعلى رأسها الجهاد، ويتميز هذا المعسكر بتوجهه الإسلامى وتمسكه بالدولة الفلسطينية وحق العودة للاجئين، وإيمانه بالكفاح المسلح كوسيلة ضرورية لاستعادة الحقوق الفلسطينية. وقد حاز هذا المعسكر على إجماع الشعب الفلسطينى، حيث حاز فى آخر انتخابات نيابية فلسطينية على فوز ساحق وأغلبية كاملة ضد فتح فى انتخابات نزيهة تحت إشراف دولى برئاسة الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر، ورغم نزاهة الانتخابات طبقا للمعايير والديمقراطية الغربية، فقد سارعت كل من أمريكا وإنجلترا وفرنسا بإعلان عدم اعترافها بالحكومة الفلسطينية التى تشكلت برئاسة الدكتور إسماعيل هنية، لأنها حكومة غير خاضعة للنفوذ الأمريكى والإسرائيلى، فى حين أنه لو فاز محمود عباس لسارعت كل هذه الدول إلى تهنئته وفتح الأبواب أمامه من أجل عيون إسرائيل. مصر، ممثلة فى وزارة الخارجية المصرية وجهاز المخابرات العامة المصرية، وهو حشد كان ولا شك قادر فنيا على الوصول إلى نتيجة حاسمة فى زمن محدود، ترضى كلا الطرفين وتكون لصالح القضية الفلسطينية، لو حسنت النوايا .. وأقول لو !! لأن الموقف المصرى تحكمه العوامل الآتية: مصر أعلنت على لسان رئيسها السابق أنور السادات أن حرب أكتوبر هى آخر الحروب، وهذا كلام لا يجوز سياسيا، ولا يصح تفاوضيا، والمشكلة ليست فى التصريح فقط ولكن فى تبنى النظام المصرى لهذه العقيدة السياسية والدفاع المستميت عنها، مما يطمئن إسرائيل إلى أن رد فعلنا لن يكون عسكريا مهما اعتدت علينا، ربما نشجب ونندد وربما نشكوا إلى مجلس الأمن، ولكننا لن نقوم بأى عمل عسكرى ضدها مهما حدث، وربما كان ذلك صحيحا من الناحية الفنية، وحتى لا يفهمنى المنبطحون خطأ فأنا هنا لا أدعو الحكومة المصرية إلى شن الحرب أو الحصار على أى دولة – طبعا باستثناء الحكومة الفلسطينية الشرعية فى قطاع غزة – ولا معاداة أى حزب أو دولة – طبعا باستثناء حزب الله ودولة إيران، ولكن الحكمة تقتضى أن نعد الوطن لهذا الاحتمال، وأن يكون هذا الخيار متاحا وقت أن نحتاج إليه، خاصة وأن عدونا يستعمله طوال الوقت بل ويضعه تحت رأسه حين ينام. مصر فى حالة سلام مع إسرائيل بموجب اتفاقية كامب دافيد، ويعتقد البعض أن هذه الاتفاقية هى كتاب مكمل للكتب السماوية الثلاث رغم مافيها من امتهان لمصر، ورغم أن إسرائيل تخرقها بالليل والنهار، حتى أن أحد المعلقين كتب تعليقا على مقال سابق أن عدم التزامنا بها مناف للرجولة والأخلاق .. إلى هذا المدى وصل غسيل المخ، أو قل وصلت العمالة. أن مصر فى معظم توجهاتها وقراراتها تضع نصب عينيها بوصلة التوجه الأمريكى الإسرائيلى وهى لا تستطيع أن تتخذ من القرارات ما يتعارض مع هذا التوجه، بل وتتخذ الخطوات العسكرية المؤيدة لذلك، ففى الأيام الأولى للثورة الإيرانية قامت مصر بتقديم الدعم العسكرى للعراق ومساعدتها فى التخطيط لضرب إيران ليس لأن مصر تكره إيران ولكن لأن أمريكا وإسرائيل تكرهان إيران، وحين تغيرت الأحوال وأصبح العراق هو عدو أمريكا وإسرائيل، انضمت مصر إلى عملية عاصفة الصحراء وساهمت بقواتها المسلحة فى ضرب العراق ليس لأن مصر تكره العراق ولكن لأن أمريكا وإسرائيل تكرهان العراق، وهكذا، نحن نعادى من يعادى أمريكا وإسرائيل ونصادق من تصادق أمريكا وإسرائيل، ولعل هذا هو السبب فى رفضنا المستمر لإقامة أى علاقات سياسية مع إيران رغم زيارة وزير خارجيتها لمصر منذ فترة، متعللين فى ذلك بوجود صورة خالد الإسلامبولى على عمارة أو اسم شارع فى طهران رغم أن إيران قد رفعتهما ورغم أن ذلك كان موجها إلى استراتيجية كامب دافيد وليس إلى الشعب المصرى أو النظام الحالى، متناسين وقابلين بوجود نصب تذكارى للطيارين الإسرائيليين الذين أسقطت طائراتهم فى حرب أكتوبر المقام فى داخل الأراضى المصرية وسط سيناء على الطريق بين العريش ورفح ولا نستطيع أن نرفعه أو نقترب منه لأن اتفاقية كامب دافيد تلزمنا بعدم المساس به والمحافظة عليه، هل يعقل هذا الكلام؟ إن إسرائيل هى عدونا حتى الآن وحتى تعيد الحقوق العربية لأصحابها، وحتى تصبح دولة طبيعية مثل باقى دول المنطقة ، لكن حتى ذلك الحين فإن عدو عدوى هو صديقى وحليفى فأين العقل؟ ورغم كل ماذكرته عن السياسة المصرية بصفة عامة قياسا على صالح الوطن، من أجل ذلك فإننى أكرر هنا ما سبق أن ذكرته فى مقال سابق من الإشادة بموقف مصر الرسمى حين رفض الرئيس مبارك الانضمام إلى المظلة النووية الأمريكية للشرق الأوسط ولعلها تكون خطوة على طريق التحرر من النفوذ الأمريكى وتغليب مصلحة الوطن. تلخيصا لما سبق أقول إن الوسيط المصرى تحكمه القيود والتوجهات والروابط الآتية: فتح منظمة علمانية لا تؤمن بالكفاح المسلح، تعيش فى أمان تستجديه من إسرائيل فى الضفة الغربية، قام قادتها محمود عباس ومحمد دحلان بالترتيب مع إسرائيل لاغتيال الرئيس السابق لها ياسر عرفات، كما شهد بذلك فاروق قدومى، أعقب ذلك تولى محمود عباس السلطة، ومنذ ذلك الحين لم تتعرض لأى غزو كما أن قادتها لم يتعرضوا لأى اغتيالات، ويعيش كل قادتها وكوادرها الموالين فى الضفة الغربية إلى آخر العمر تحت حماية إسرائيل ورضاها دون أى خشية من الاغتيال أو الاعتقال. حماس منظمة ذات توجه إسلامى تؤمن بضرورة استرداد الحقوق الفلسطينية كاملة سلما أو عن طريق الكفاح المسلح ، وهى لا تسمح بأى استغلال أو فساد مالى فى السلطة، مكروهة من أمريكا وإسرائيل وبعض دول أوربا الذليلة، وبعض الدول العربية تحت دعوى كراهيتها للكفاح المسلح، قامت إسرائيل باغتيال قادتها واحدا تلو الآخر، كما تقوم يوميا باغتيال مواطنيها من جميع الأعمار والفئات، حيث تعتبر موطن أبطال المقاومة، كما قامت إسرائيل بغزوها وتدمير منشآتها عدة مرات، بخلاف روتين القتل والتدمير اليومى. البندان السابقان يوضحان أى الفريقين يقف مع إسرائيل ضد شعبه ووطنه فتقوم بتأييده والمحافظة على حياته، وأى الفريقين يقف مع مطالب شعبه وحقوق وطنه المسلوبة بواسطة إسرائيل فتقوم بالعدوان عليه باستمرار وتغتال قادته ومقاتليه. نأتى لموقف مصر العاجز نتيجة مقولة إن حرب أكتوبر هى آخر الحروب، ونتيجة احترامها المذهل لاتفاقية كامب دافيد أكثر مما يحترمها الإسرائيليون أنفسهم، ورعبها القاتل من إغضاب إسرائيل مضحية فى ذلك بدماء الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة وذلك بإغلاق معابر رفح ورفض دخول المساعدات الإنسانية إليه، واستجلاب الجنود الأمريكيين وأجهزة الاستشعار الإلكترونية لتدمير الأنفاق على رؤوس الشبان الفلسطينيين وهى الشريان الوحيد الذى يمر من خلاله الغذاء والدواء إلى داخل القطاع ، وذلك تحت دعاوى سخيفة مشينة عن احترام الاتفاقيات الدولية وسيادة الدولة، وهى التى مرغها الجنود الأمريكيون فى التراب حين دخلوا بعد ذلك إلى مستسفى العريش يبحثون عن الفلسطينيين الجرحى لاعتقالهم، إلى جانب قيامها باستجواب وتعذيب الجرحى الفلسطينيين الذين وصلوا إلى مصر إلى حد الموت كما حدث مع المجاهد الفلسطينى يوسف أبو زهرى طبقا لرواية شقيقه سامى أبو زهرى المتحدث باسم حركة حماس. هل بعد ذلك وفى ضوء ما سبق من معطيات، هل يمكن أن نقول إن مصر تستطيع أن تكون وسيطا نزيها بين فتح وحماس؟ وكيف؟ أم أنها تحاول إخضاع رقبة حماس المحاصرة والمغلوبة على أمرها لأمر وسيطرة حركة فتح ومحمود عباس وإسرائيل؟ لك الله يامصر .. ولكم الله يارجال المخابرات العامة القائمين بالوساطة، المحاصرين .. الحائرين بين نصرة الحق العربى المتمثل فى حماس ومقاومة المحتل، وبين وهم وأكذوبة السلام مع إسرائيل، المتمثل فى الرضوخ للأمر الواقع للقوة الإسرائيلية المعربدة والأمر الواقع لضعف الحكومات العربية، وبين هذا وذاك استرضاء إسرائيل والرضا بما تجود به على الفلسطينيين. لك الله يامصر .. ولكم الله يارجال المخابرات العامة القائمين بالوساطة .. رغم كل النوايا الحسنة!!