"لم يكن يوم الثانى عشر من يونيو 2009م فى حياة الإيرانيين يوما عاديا بل كان الشعب الإيرانى مع موعد مخاض عسير وجديد لشكل إيران الجديدة أو "إيران ما بعد الثورة الثانية", الثورة الخضراء التى قادتها المعارضة متمثلة فى الإصلاحيين ضد ولاية الفقيه, إذ لم يكن الحدث عاديا, ولم تمر نتائجه على الشعب الإيرانى فى الداخل والخارج مرور الكرام ,وانقلب السحر على الساحر وتبدلت الخريطة الجيوسياسية لإيران.. فاز نجاد وتم تأخير تنصيبه بسبب عواصف الاحتجاجات التى قادتها ثورة الإصلاحيين الخضراء, بقياده المرشحين الخاسرين فى الانتخابات الأخيرة يونيو 2009, خاصة موسوى الذى لم يكف عن تجييش أنصاره للتصدى أمام هذه النتائج التى وصفها بالمزورة.." كل ذلك تدفعنا للنظر إلى هذا الشكل الجديد التى أضحت إيران عليه الآن وخاصة بعد تولى أحمدى نجاد للحكم لفترة ولاية أخرى". كشفت الانتخابات الإيرانية الأخيرة النقاب عن شرخ ثقافى فى شكل ومضمون نظرية ولاية الفقيه, التى تمتزج فيها الشكل السياسى والدينى ويلتحمان ليكونا مذهبا اعتقاديا ونظرية سياسية تدار بها البلاد وتتحكم فى العباد. بدا الشرخ واضحا فى حجم المعارضة الشرسة لهذا النظام الذى لم يستطع أن يقدم توازنا بين كتلتين المحافظين المتمسكة بالنظرية الإسلامية بثوريتها الأصولية, والكتلة الإصلاحية الواسعة الانفتاح على الآخر, الليبرالية فى بعض الأحيان. كان من الطبيعى بعد مرور ثلاثين عاما على ميلاد هذه النظرية أن تؤتى ثمارها وتستوعبها الأجيال الإيرانية جيل بعد جيل ولكنه الآن يعلن العصيان عليها ويجدها- من وجهة نظر الإصلاحيين- قاصرة على إرضاء حاجياتهم, وإشباع طموحاتهم بالرغم كون الحوزة الدينية فى إيران على وجه الخصوص, والمناخ الإيرانى على وجه العموم هو الذى أنشئ هذا المعتقد المذهبى والسياسى المعروف ب"ولايه الفقيه". دولة إيرانية... أم دولة الحرس الثورى الإيرانى: المراقب للداخل الإيرانى الآن يجد أن البلاد تحكم من قبل الحرس الثورى الإيرانى الذراع اليمنى لأحمدى نجاد والمرشد الأعلى والداعم الرئيس لجمهور المحافظين, ومن أدار البوصلة لصالحهم فى الانتخابات الأخيرة... والذى أعده المحللون انقلابا ضد الشعب الإيرانى. يدفعنا الفضول لمعرفة المهام الإضافية التى أسندت للحرس الثورى الإيرانى وعززت من تواجده بصورة أكبر مما كان عليها طوال الثلاثين عاما الماضية ووجهت دفته إلى الداخل الإيرانى, فنجد أن بوصول أحمدى نجاد إلى السلطة تولى الحرس الثورى الإيرانى كافة مراكز السلطة الهامة فى إيران, وتقلد رجال الحرس الثورى مناصب رفيعة ,حيث صار منهم رؤساء للأقاليم الإيرانية ,ومابين 75 و80 بالمائة من الوزراء من الحرس الثورى. هذه الدولة الضخمة الجديدة الأشبه بالبوليسية التى أنشأها أحمدى نجاد تحت قيادته "دولة الحرس الثورى الإيرانى"هى الداعم الرئيس لأحمدى نجاد, والعقيدة المذهبية والسياسية المتمثلة فى ولاية الفقيه, وهى أدواته الرئيسة فى تدعيم فترة ولايته الجديدة, والتأكيد على مواصلته للحٌلم الإيرانى بامتلاك السلاح النووى بالرغم من العقبات التى تحول دون تحقيقه. أصبح الجمهور الإيرانى ينظر لهذا التواجد الكثيف, والجديد للحرس الثورى على كونه احتلالا مقنعا, وقمعا وديكتاتورية أخرى تشبه رجال الشاه فى الماضى قبيل الثورة, خاصة المعارضة الجديدة التى لم تعرف إيران منذ 30 عاما مثلها,حيث يقف رفسنجانى بجوار خاتمى وموسوى ويصطف كروبى مع الآلاف من الطلبة, والجامعيين والأساتذة والمراجع الحوزوية قدم بجوار قدم أمام دولة الحرس الثورى الإيرانى, لا تبالى ببطشهم فالشعب الآن الذى ينشد التغير يندفع بقوة نحوهم وباتجاه أفكارهم وأطروحاتهم . لن تكون الجمهورية الإسلامية اليوم تلك الجمهورية التى كانت قبل الانتخابات.. فأكبر رأس فى النظام إن لم يكن يجسد النظام نفسه, المرشد الأعلى للثورة الإسلامية "آية الله على خامنئى" تعرض لأكبر هجوم عرف منذ قيام الثورة, ليس فى شخصه فحسب بل كان موجها مباشرة ضد مكانته الدينية والروحية ,التى لها شأن كبير فى نفوس وقلوب العامة والخاصة, ليس فى إيران فحسب بل بين شيعة العالم أجمع.. نتج عنه اهتزاز صورته التى كانت لها قدسية فى الإمامية قبل الانتخابات. وصف خامنئى بأنه كذاب وديكتاتور, وتعالت الصيحات من الشعب بموته, كل ذلك يمهد لسحب السلطتين الروحية والتنفيذية من تحت يديه تدريجيا, ولو بالنذر اليسير.. فلم يعد خامنئى الحاكم بأمر الله الآن.. فى نظر الشعب الإيرانى الرافض لمجىء المحافظين وعلى رأسهم نجادى, الذين أتوا إلى السلطة بدعم المرشد, والإصلاحيون الذى ينخرون فى نعش المحافظين ودولة ولاية الفقيه... نتيجة لذلك يعيش النظام الإيرانى الآن فى ارتباك شديد.. يحاول كتم الأفواه بالداخل, ويفض الاشتباك بينها وبين الخارج. تفهم نجاد طبيعة المرحلة القادمة جيدا, ووجدها هى الأصعب من سالفتها, فاندفع لوضع مفهوم جديد غير تقليدى للحكومة المتعارف عليها فى إيران, من خلال ابتداعه واختلاقه الكثير من العناوين الجديدة من اختيار المحافظين والوزراء, والمقربين والاستشاريين, وحجم الخبرات السابقة, وشكل الولاء والأجندة التى يتبعها فى سياسته القادمة صوب الداخل والخارج, وكيفية احتواء المعارضة أو القضاء عليها وإيداعها داخل السجون والمعتقلات, والهدف من كون ألا تكون العاصمة هى المقر الأوحد للحكومة هى أن على الشعب الإيرانى لابد وأن يعايش الحراك الحكومى الجديد, محاولة منه بدفع الوقود فى الداخل الإيرانى ليرى الشعب شكلا مغايرا يترقب الجميع... انعكاساته والجديد الذى يقدمه وما يربو إليه نجاد من هذه الفكرة الجديدة. بالرغم من التأييد القوى والجارف من قبل العالمين العربى والغربى للإصلاحيين, إلا أن مواقف الإصلاحيين حتى الآن والأجندة التى يطرحونها ونظرته لشكل العلاقة بين إيران والخارج لا تزال ضبابية, ويشوبها نوع من الريبة فى ما يقدمونه من طرح فى التعامل مع الخارج, وخاصة العلاقة مع العرب وهو ما يعنينا هنا! يمكننا وصف الحركة الإصلاحية بأنها حركه منفتحة ليس على الغرب فحسب, وإنما على العالم بأكمله بما فيهم إسرائيل, وهو الأمر الذى جعل المحافظين ينظرون إليهم على كونهم عملاء وخونة ضد النظام الإسلامى. الإصلاحيون فى حملتهم التى شنوها على أحمدى نجاد بدءا من الأيام الأول من الانتخابات الأخيرة إلى إعلان النتائج, نرى أن الأسباب فى نقدهم له هو سياساته الاقتصادية وتعامله مع الغرب, بصورة أسهمت فى عزلة إيران... خصوصا حين فتح ملف "المحرقة"بغير مبرر كما يقولون, وكون نجاد كان أكثر لينا مع العرب, فلقد أٌخذ عليه- من قبل الإصلاحيين- زيارته للإمارات كأول رئيس إيرانى يزور الإمارات العربية المتحدة, وحضوره اجتماع مجلس التعاون الخليجى فى الدوحة. ثم يتضح الموقف الغريب من الصراع العربى الإسرائيلى لدى الإصلاحيين حيث إنهم لا يرون داعيا من الدخول فى مواجهة عسكرية أو سياسية مع الدولة العبرية, ويرون أن إيران لم تجن شيئا من دعم حماس وحزب الله ضد إسرائيل فهم لا يرونها عدوا بل صديقا... بل إنهم يتشدقون بأنه لا توجد دول متقدمة وقومية ولها مستقبل فى المنطقة سوى إيران وإسرائيل... لذلك يتعين توثيق العلاقات بينهما لكى يصبحا قاطرة التقدم التى تٌخرج المنطقة من حالة التخلف. بالطبع ليس هذا رأى كل الإصلاحيين, ولكن رأى الأغلبية مما يدفعنا إلى إعادة النظر إلى هؤلاء الإصلاحيين,على كونهم الأجدر بقيادة إيران, والأصلح للتعامل مع الآخر وخاصة العرب, يدفعنا هذا إلى القول بوجود إشكالية كبرى ليس على مستوى المحافظين ودولة الحرس الثورى الإيرانى فحسب, جراء سياسة أحمدى نجادى الصعبة, بل على مستوى الإصلاحيين أيضا الذين تشوب برامجهم الغير معلنة حتى الآن بشكل واضح نوع من الغموض يكتنفهم ويدفعنا نحن العرب إلى أن نتوخى الحذر حينما نقف وراء مظاهراتهم واحتجاجاتهم ضد نجاد والمحافظين..