يقاس تقدم الأمم ورقيها وحضارتها بنوعية الآداب والفنون التى تكون سائدة فيها وتعبرعن الواقع الذى يحياه المجتمع فى زمن ما وحينما نرجع إلى ما سطر بذاك الزمن من أعمال بعد فترة نجدها تصلح كمادة تاريخية دسمة نستطيع من خلالها الحكم على تلك الحقبة الزمنية، التى صيغت وقيلت فيها هذه الفنون أو هذه الأعمال الأدبية الرصينة المعبرة وهذا هو الهدف من الفن الجيد أنه جزء لا يتجزأ من تاريخ الأمم والشعوب وليس مفسدة أو مضيعة للوقت كما يتوهم الواهمون فهو نتاج فكرى لأناس حباهم الله بموهبة فطرية لا تتوفر للكل ولا يقدر عليها سوى من وهب لها وحباه الله بها. أقول ذلك بمناسبة ما تمر به الساحة السياسية المصرية الآن وانشغالها بما يجرى لنهر النيل وسد النهضة الذى تشرع أثيوبيا فى تنفيذه والذى سيحجب حصة مصر والسودان من ذلك النهر العظيم وتذكرت ما قدم من أغانى رائعة فى حب ووصف ذلك النيل العظيم وأهمها ما غنى عبد الحليم حافظ، من كلمات الشاعر الرقيق سمير محجوب، والذى اقتصرت معظم أعماله على عبد الحليم حافظ وقد صاغها لحناً بحرفية متناهية الفنان الكبير محمد الموجى، واختار لها السلم الموسيقى الخماسى، وهو ليس معهوداً استخدامه بمصر، ولكنه مستخدم فى الغناء السودانى فكأنما أهدى الموجى اللحن لإخواننا فى الجنوب وتبدأ الأغنية بقول الشاعر: يا تبر سايل بين شطين يا حلو يا أسمر... لولا سمارك جوا العين ما كان تنور هكذا حينما يكون المجتمع مستقر يبدع الفنان أيما إبداع فى مجاله، ويرسم لنا بريشته لوحة فنية تعبر عما يجيش ويعتمل بصدورنا، والعكس صحيح فحينما يكون هناك تخبط وعدم استقرار فى عصر ما، تجد الكل يتخبط وربما تمر المرحلة ولا تجد من يؤرخ لها فنياً سوى أعمال متناثرة ممن لهم مصلحة، وغالباً ما تكون هذه الأعمال مزيفة ولا تعبرعن الحقيقة لإنه من الصعب أن يجد الفنان أو المبدع نفسه فى زمن التكفير المبنى على الجهل بحقائق الأمور، إذ ربما يكتب الشاعر قصيدة بإحساس مرهف تكون أعمق من كتاب فى التاريخ مكون من مئات الصفحات وهذا ما رأيناه فى أغنية "حكاية شعب" التى كتبها الشاعر الكبير أحمد شفيق كامل، فمن يسمعها أو يقرأها يقف على حقبة هامة من تاريخ مصر، بدءاً من حادث دنشواى زمن الزعيم مصطفى كامل، مروراً بحفر قناة السويس وما عاناه المصريون بالسخرة فى حفرها انتهاء بتأميمها فى عصر جمال عبد الناصر، ومن ثم بناء السد وهو ما يعبر عن وجدان الناس ومنهج ثورة ومسيرة شعب. ولكى لا نخرج عن إطار الفكرة الرئيسية فى الموضوع فالمتأمل لكلمات أغنية النيل المشار إليها بدايةً نجدها لمسة شاعرية رائعة تبين مدى أهمية نهر النيل لمصر وقد صوره الشاعر بصورة بديعية وكأنه ذهب سائل يمر بين شطين وليس مجرد ماء وما لفت نظرى بشطرته الأولى من قوله: الدنيا من بعدك مرة.. يا ساقى وادينا الحياة ده اللى يدوق طعمك مرة.. م المستحيل أبداً ينساه ثم يختم الشاعر كلماته الرقيقة فى وصف النيل بمداعبة الإخوة الأفارقة بقوله: يا ريحة من الأحباب يا نيل.. وأهل مش أغراب يانيل مما يؤكد على أخوتنا سواء فى الأعالى أو الوسط أو المصب فما يأتينا من ماء شبهه الشاعر بريحة أو عطر من أناس أعزاء علينا تربطنا بهم صلة الدم ويجرى فى عروقنا ماء واحد هو النيل الخالد. وأيضاً هناك الكثير من القصائد والأغانى الأخرى التى تغزلت فى النيل وأظهرت مدى عشق المصريين له ولا يتسع المقام لعرضها جميعها ولكننا نذكر بعضاً مما قد اشتهر منها مثل قصيدة "النيل" التى كتبها الشاعر الكبير أحمد شوقى وشدت بها أم كلثوم ومطلعها يقول: من أى عهد فى القرى تتدفق... وبأى كف فى المدائن تغدق ومن السماء نزلت أم فجرت... من عليا الجنان جداولا تترقرق وبأى نول أنت ناسج بردة... للضفتين حدودها لا يخلق وكتب أحمد شوقى وباللهجة العامية الأغنية الشهيرة التى غناها محمد عبد الوهاب، والتى تقول: النيل نجاشى حليوة أسمر... عجب للونه دهب ومرمر وأيضاً الشاعر بيرم التونسى كتب من أحلى ما غنت به أم كلثوم : شمس الأصيل دهبت خوص النخيل يا نيل... تحفة ومتصورة فى صفحتك يا جميل وكلنا رددنا فى صغرنا مع نجاة أغنيتها الشهيرة من كلمات صلاح جاهين: عطشان يا أسمرانى محبة عطشان يا أسمرانى املالى القنانى محبة املالى القنانى يا نيل يا أسمرانى بل إن فيروز رغم أنها ليست مصرية فقد غنت هى الأخرى للنيل فقالت: مصر عادت شمسك الذهب.. تحمل الأرض وتغترب كتب النيل على شطه.. قصصاً بالحب تلتهب إذاً نهر النيل ليس مجرد مياه تتدفق تأتى من أقصى الجنوب الأفريقى لتصب فى مصرولكنه يشكل وجدان المصريين ومحور حياتهم فلا يجوز بأى حال من الأحوال التفريط أو التهاون مع أى جهة تريد أن تحرم مصر من هذا النبع الذى ارتبطت به ارتباطاً وثيقاً لدرجة أن المؤرخ الإغريقى هيرودوت الذى عاش فى القرن الخامس قبل الميلاد ووصفه بأبوالتاريخ قال مقولته الشهيرة "مصرهبة النيل".. وهناك من القصص الشعبى الذى توارثته الأجيال الكثيرعن هذا النهر العظيم ومنها أن المصريين القدماء كانوا يهبونه أجمل بناتهم حتى يظل يتدفق حاملاً خيره ونماءه. وبالتالى ما كان أحد يفكر يوماً أن يجىء زمن يقال فيه أن مصر ستحرم من هذا النهر ولكن فى زمن الضعف والخنوع كل شىء متوقع فمصر اليوم لا قيمة لها ولا احترام لقياديها أو شعبها لأنها هانت على أبنائها وبالضرورة تهون على إخوانها سواء أكانوا إخوة العربية أو الإفريقية وهو ما لا نقبله بأى حال من الأحوال فإذا كانت إسرائيل قد قامت بمد يد العون للأثيوبيين لإنشاء السدود لحرمان مصر المتعمد من هذا النهر فى ظل غياب سياسات الحكومة المصرية وسباتها العميق وعدم نظرتها الواقعية لمد جسور الثقة مع قارتنا السمراء فنحن كشعب لن نقبل ذلك وسنخرج عن بكرة أبينا للدفاع عن حقنا فى هذا النهر الذى هو جزء هام لا يتجزأ من كياننا ومن ماضينا التليد وحاضرنا فهو تاريخ مصر فإذا ذكر النيل ذكرت مصر، وإذا ذكرت مصر تبادر للذهن نهر النيل والأهرامات فهما صنوان لا ينفكان من تاريخ مصر العظيم، فليس من حق جماعة تأتى فى زمن لتهدم التاريخ تحت أى مزاعم تدعيها فمن لا يروقه تاريخ صنعه رجال أفذاذ وتوارثناه عبر الأجيال فليحمل عصاه وليرحل غير مأسوف عليه فمصر عرفت توحيد الإله قبل بزوغ الأديان فليس من حق كائن ما كان أن يلفت نظرنا إلى ما هو يستقيم أو لا يستقيم مع قيم الدين وإلا من باب أولى فلينظر إلى نفسه هو ويقيسها بمقياس الدين هل هو منطبق عليه فهماً وسلوكاً أم أنه شاذ؟ فمن هو شاذ يمتنع عليه الحكم على غيره بالشذوذ أو يرمى غيره بالكفر وربما يكون غيره أفضل منه سراً وعلانيةً. إذاً فما يحدث الآن بمصر ما هو إلا إرهاصات لأمر جد خطير واختبار هام فمن لا يجد فى نفسه القدرة على اجتيازه وبأسرع وقت ممكن فهو لا يصلح للحفاظ على حضارة آلاف السنين التى مطالب بل مأمور بالحفاظ عليها ورعايتها لا بهدمها وإلا من حق الشعب صاحب هذه الحضارة الخروج عليه لهدمه هو وقلعه من جذوره فمن لا يحافظ على تاريخه وتراثه فهو منبت الصلة لا يأمن على حماية نفسه أو هويته فكيف يؤتمن على حماية شعب ويصون حضارته ومن ثم يكون فاقداً للصلاحية عديم الأمانة عديم الهوية.