استكمالا لما بدأته فى الأسبوع الماضى حول حقيقة ما شهدته مصر خلال الستين عاماً الأخيرة الذى يجب أن يكون أساس أى نهضة مصرية، أياً كان شكلها أو مضمونها، نواصل الوقوف على أهم مكونات الكارثة التى حلت ببلادنا، وأبرز معالم الخلل الذى أودى بكل مظاهر الحياة فى مجتمعنا.. رابعاً: التدهور السريع للدور الإقليمى المصرى، الذى أصبح يتحرك بسرعة أكبر من سرعة انحدار صخرة ضخمة من أعلى الجبل، وهو تدهور لا تخطئه العين غير المدققة، ولا يمكن أن تستره الدعاية الجوفاء، التى رأته كالشمس التى لا تغيب!! فأين هذه الشمس من غزة!؟ التى بدلاً من أن نمد لها يد العون، فى مواجهة أشرس حملة صهيونية، وأخطر حصار يشهده عالم اليوم، وقفنا نعاون على حصارها بكل السبل، التى لم يكن يحلم بها الإسرائيلى نفسه!! وأين هى الشمس التى لا تغيب فى السودان، الذى تركناه وحيداً، يعانى الحصار والتمزيق من كل الجهات، لا يجد منا أكثر من مصمصة الشفاه!! برغم أن بلدنا هو أكثر البلدان تضرراً من هذا التمزيق، ولا أبالغ إذا قلت إن مصر مستهدفة من هذا التقسيم أكثر من السودان.. وهكذا يتم تقويض أهم أساسيات أمننا القومى من خلال الإدارة الخبيثة للصراع مع أهلنا فى غزة جهة الشرق، والتدخل غير المباشر فى الساحة الجنوبية مع أهلنا فى السودان، ناهيك عن التدخلات الموسعة فى شؤون المنطقة، والتى تعد خصماً مباشراً من رصيد الدور المصرى فيها، كما أنها تعمل على حسابه، وتقوم بحصار مستقبله، تحسباً لأى نهضة مصرية قد تحملها السنوات القادمة. خامساً: السرعة المذهلة التى تتجه إليها البلاد، وهى تسير فى اتجاه إفقار الغالبية العظمى من الشعب، لصالح طبقة معروفة، ومعروف أصلها، والهدف من وراء تمكينها من قوت الأمة وغذائها الضرورى ومدى ارتباطها بالمصالح الخارجية، ومدى الترابط بينها وبين القوى الداخلية المتنفذة.. إن هذا المخطط قد أصبح من أهم وأخطر المخططات الحالية، كما أصبحت أولوية التصدى له تحتل أولوية شبه مطلقة، فالأمة التى تذل يومياً، أمام طابور الخبز أو طابور الغاز لا يمكنها أن تدافع عن مستقبلها أو مصيرها الذى تراه مهدداً، لأنها لن تجد مساحة من الوقت لتتفكر فى ذلك المستقبل أو المصير، فضلاً عن أن تبصره وفى هذا المقام لا ينبغى أن نكون بالسذاجة، التى لا تتصور وجود مخطط إشغال، لصرف الجمهور عن قضايا الأمة المصيرية، فى مرحلة من أهم مراحل استنزافها، ويأتى الإشغال بلقمة العيش على رأس هذه الإشغالات، سادساً: استمرار مخطط مطاردة التيار الإسلامى، والعمل على محاصرة كل أنشطته، وهو ما تكرس خلال الستين عاماً الأخيرة، وإن لم يكن غائباً قبلها، وذلك لأنه مخطط مرتبط بالقوى الدولية المتنفذة والمتعاقبة، والتى ورثت المنطقة بعد إسقاط الخلافة!! وتتحسب لكل ما يتعلق بالإسلام حتى اليوم، وكان من نتائج استمرار العمل بهذا المخطط، أن تحول هذا التيار إلى ما يشبه جماعات المطاريد فى الجبال والكهوف أو الفارين من وجه العدالة التى تلاحقهم طوال الوقت!! برغم أن العين المخلصة والوطنية لا يمكنها إلا أن تراه أكثر التيارات تعبيراً عن ثقافة الأمة ودفاعاً عن مصيرها وحرصاً على مستقبلها، وأن أى نهضة حقيقية لهذا المجتمع، لا يمكنها أن تتم بمعزل عن هذا التيار، فضلاً عن أن تقوم على تصفيته. سابعاً: تزايد مظاهر تآكل الدولة وتضخم المصالح الطائفية والفئوية على حساب تماسك المجتمع والأمن القومى، ولعل أبرز مثال لذلك هو استلاب الكنيسة للعديد من سلطات الدولة، وممارستها للعديد من واجباتها، فضلاً عن منازعة اختصاصاتها الرئيسية وتركيع القضاء وهيبته لصالح الكنيسة ودورها الذى تجاوز كل الحدود، ثامناً: تصاعد عمليات التغريب الاجتماعى، التى تهدف إلى هدم الأركان الرئيسة لأخلاق المجتمع وقيمه الأساسية، تلك العمليات التى لم تعد خافية على أحد، والتى أصبح يكتوى بنارها الجميع، ولم تعد البيوت عصية على اقتحامها، ولم تعد الأسرة محصنة من غزوها.. هذه الحقائق يدركها بسهولة كل من تتبع الانهيارات الاجتماعية التى تشهدها البلاد، وخاصة على مدى العقود الأخيرة، ومن ثم بروز وتضخم الظواهر الخطيرة التى لم تعد خافية على أحد مثل اختطاف الفتيات والتحرش الجنسى العلنى، حتى أننا لن نبالغ إذا قلنا إن التدمير والنسف قد أصبح يطال البنية الأساسية لأخلاق ودين الأمة، ولن نبعد كثيراً عن الموضوع، إذا تتبعنا الرموز الثقافية التى يجرى الترويج لها أمام أبنائنا ليل نهار، فهى الرموز البعيدة كل البعد عن أخلاق مجتمعنا ودينه، وبالمقابل لا يمكن أن تظهر الرموز الأخرى إلا فى صورة مزرية، لا تستدعى غير الرثاء وربما التأفف!! كل هذا الترهل أو التردى يوجب بداية جديدة، لا يمكن أن تكون بحال استمراراً للنهج الحالى فى إدارة البلاد، وذلك لأن تراكمات العقود الستة الأخيرة، قد أفضت إلى حالة مأساوية، لا يمكن تداركها بالترقيع، ولن أكون مبالغاً إذا قلت إننا قد وصلنا إلى قاع المنحنى، الذى ليس بعده انحناء، لهذا فلا أظن أن الأيام القادمة ستحمل غير الصعود، الذى ينتشل مجتمعنا، ويعيد الأمل للأجيال القادمة، فلعل أيامهم تكون أفضل من أيامنا.