كان معروف شيخا لقبيلة من البدو، أتاه الله الحكمة وفصل الخطاب وأربعة من الذكور، عاش عمره يحكم بين أفراد القبيلة بالعدل والفضل، أحبه الجميع، ربى أولاده بما وهبه الله من الحلم والعلم، غرس فيهم محبة الناس ورعاية مصالحهم ومخافة الله، عاش الأولاد فى كنف هذا الشيخ الحكيم، بادلوه حنانا بحنان وعطفا بعطف، أحس الشيخ بقرب الأجل فرأى أن يضع كل واحد منهم فى المكان الذى يناسبه، جمع أولاده وقال لهم: عاهدونى على أن تنفذوا وصيتى، وإن اختلفتم فى شىء فاذهبوا إلى النعمان، فإنه ملك حكيم. عاهدوه، من قبل أن يسمعوا الوصية، نظر إلى ابنه الأكبر وقال: لك كل أسود. نظر إلى الثانى وقال: لك كل أصفر. نظر إلى الثالث وقال: لك كل أبيض. ونظر إلى الأصغر وقال:أما أنت فلك مجالس الرجال. نظر بعضهم إلى بعض بدهشة، وقالوا فى نفس واحد: سمعا وطاعة يا أبانا. مات الأب، حزنت القبيلة بأسرها، ونصب العزاء، وتفرق الأبناء حول الوصية، وتعاهدوا أن يذهبوا إلى الملك النعمان. فى الصباح الباكر أخذوا رواحلهم، ساروا إلى الملك، على مسيرة يوم من القبيلة، فى الطريق نظر أحدهم وقال: سار هنا جمل أعرج. قال الثانى: إنه أعور. قال الثالث: إنه أزعر. وقال الرابع: إنه أهوج. ساروا بعض الطريق يتجاذبون الحديث فى فضل أبيهم، فوجدوا أعرابيا يصرخ ويبكى ويهرول يمينا ويسارا، سأله أحدهم: ماذا بك أيها الأعرابى. قال الأعرابى: فقدت جملى. قال أحدهم: جملك أعرج. قال: نعم. قال الثانى: جملك أعور. قال: نعم. قال الثالث: جملك أزعر. قال: نعم. قال الرابع: جملك أهوج. قال: نعم. ذهل الأعرابى من دقة الوصف فصرخ: أين جملى أيها اللصوص. أمسك بمقود رواحلهم وقال: لن أدعكم حتى تردوا إلى جملى. اندهش الأربعة من قول الأعرابى. قال: لن أترككم إلا عند الملك النعمان، ليأخذ لى حقى منكم. قالوا: إننا ذاهبون إليه. وصلوا إلى قصر الملك، ربطوا رواحلهم خارجه، دخلوا إلى الملك فى قاعة الحكم، حيوه كما ينبغى أن يحيوا ملكا، وقبل أن يرد عليهم صرخ الأعرابى: هؤلاء سرقوا جملى. قال الملك: ما حجتك على ذلك؟ قال: لقد وصفوه لى وصفا دقيقا لا يعرفه إلا من خبره، وهؤلاء غرباء، فكيف عرفوه إن لم يكن هم الذين سرقوه! قال الملك: ما حجتكم فيما قال هذا الرجل؟ قال الأكبر: قلت إن الجمل أعرج، لأنه ترك أثر رجل كاملة، والأخرى حرف رجل، فهذا دليل عرجه. قال الثانى: قلت إنه أعور، لأنه أكل العشب اليابس وترك الأخضر، فلو كان سليم العينين لأكل الأخضر. قال الثالث: قلت إنه أزعر لأنه تبعر فى سطر واحد، وذيل الجمل يفرق بعره على الجانبين. قال الرابع: قلت إنه أهوج، لأنه أكل فى غير انتظام، والجمل عادة يرعى بانتظام. فقال النعمان: أيها الرجل اذهب وابحث عن جملك، هؤلاء رجال لا حاجة لهم بمثل جملك. تعجب الرجل من قول الملك، ونظر إليه متوسلا، فقال الملك: هؤلاء الرجال عرفوا هذه الأوصاف بفراستهم. قال النعمان للأخوة الأربعة: أى ريح طيبة جاءت بكم إلينا. نظروا إليه وقالوا: نعتذر يا مولانا الملك أن عرفتنا بهذه الطريقة، نحن أولاد الشيخ معروف. فتبسم الملك: سمعت كثيرا عن هذا الرجل الحكيم، فكيف حاله؟ قالوا: لقد لبى نداء ربه. حزن الملك وقال لهم: أحسن الله عزاءكم وغفر لأبيكم. أمر الملك بوليمة كبيرة تليق بهم، شكروه على كرمه وحسن ضيافته، ثم استأذن الأخ الأصغر إخوانه، فأذنوا له بالكلام، قص على الملك وصية أبيهم، قال الملك: أما عن الأسود فكل شىء أسود، مثل جارية وأرض، وجواد أسود، أما الأصفر فكل شىء أصفر مثل ذهب وقمح، أما الأبيض فكل أبيض مثل قطن ولبن. ونظر إلى الأصغر، وقال أما أنت فقد اختصك أبوك بأمور القبيلة. نظر الأصغر إلى إخوانه وقال لهم: أعلم أنكم كنتم تعرفون وصية أبيكم، والآن تأكدتم منها. قالوا: نحن على عهد أبينا. ظل الملك صامتا ينظر إليهم، ويتعجب من الحب والاحترام الذى يتعاملون به، حتى فرغوا ثم قال: هيا إلى الطعام. تناول أحدهم قضمة لحم صغيرة ومضعها وقال: لحم خروف رضع من كلبة. تشاغل الملك عنهم وأرهف السمع، تناول الآخر جرعة من النبيذ وقال: نبيذ طيب، بشائر عنبة مزروعة على قبر. وهمس الثالث: ملك ليس ابن ملك. اندهش الملك كثيرا، لكنه لم يظهر شيئا، ثم استأذن منهم بضع لحظات وخرج مسرعا إلى الوزير، وأمره أن يحضر راعى الأغنام والبستانى، فجاءا إليه فى الحال، قال للراعى: ما حال هذا الخروف الذى أتيت به إلى القصر اليوم. قال: مولاى إنه خروف مليح. قال: ليس عن ذلك، أسألك عن أمه؟ قال: إنها ماتت وتركته رضيعا، فأرضعناه كلبة كانت تسرح وراء الأغنام. زالت دهشة الملك ثم سأل البستانى: من أين جئت بعنب اليوم. قال: إنه بشائر يا مولاى. قال الملك: من أجل ذلك أقول لك من أين؟ قال: مولاى زرعت عنبة على قبر مولاى الملك، وكان هذا أول قطافها. وقع الملك فى حيرة من أمره، تذكر أباه وأمه، وخاف من فراستهم. عاد إلى الرجال وقال لهم: أنتم أحق بالملك منى. فقال له أصغرهم: قلنا إنك ملك وإن كان أبوك ليس ملكا.