ساند الثورة العرابية ودعم ثورة 19 عاقبه اللورد كرومر بالنفى عندما تصدى لأطماع الاحتلال دائمًا ما يدفع الأقباط فاتورة عشقهم الأبدي لمصر، دائمًا هم في أتون الصراعات السياسية لاجتذابهم لفصيل ما دون الآخر.. الغزاة والطامعون في مصر كانوا يظنونهم الورقة الرابحة إذا ما راهنوا عليها؛ ولكن سرعان ما تثبت المواقف الصلدة النابعة من العشق لتراب هذا الوطن أن الغزاة والطامعين راهنوا على الورقة الخطأ، والمدخل غير السليم الذي أرادوا التسلل منه لقلب هذه الأمة النابض بعنصريه "الأقباط والمسلمين". لم تكن المقولة الخالدة للبابا المتنيح شنودة الثالث «مصر ليست وطنًا نعيش فيه بل وطن يعيش فينًا» هي فقط التعبير الوحيد عن مدى تمكن عشق مصر من قلب كل قبطي، فقد سبقه بطاركة كثيرون أيقنوا أن مصر ستكون جنة الله في أرضه طالما كان عنصراها المسلم والقبطى على قلب رجل واحد في مواجهة مستبد طامع قادم من وراء البحار، أو عدو خسيس يطل برأسه من بين الجحور. في ذكرى أعياد ميلاد السيد المسيح الذي يحتفل به الأقباط، دائما ما تستعيد الأذهان ذكريات ومواقف وطنية لبطاركة جلسوا على الكرسي البابوي.. مواقف تجبر الشك على أن ينكسف ويرحل ليحل محله اليقين الثابت بوطنية الأقباط وثباتهم على مبدأ أن مصر وطن يتسع للجميع لترفرف المحبة عليه، أما الدين فهو لله، وهو أدرى بخلقه، وأعلم بقلوب عباده، يشكلها كما يشاء في عليائه. ووسط الأسماء العديدة يقفز إلى الذهن أحد هؤلاء البطاركة، وهو قداسة البابا كيرلس الخامس، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية ال 112، ومواقفه التي لا تدع مجالا للريب في عشق مصر العشق الذي تشربه كما تتوق الأرض العطشى لنسائم الندى. البابا كيرلس الخامس كانت فترة بابويته حقبة من التجديد للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فبدأ من حيث انتهى البابا كيرلس الرابع «1854 – 1861» في إصلاح التعليم، كما أكمل بناء الكاتدرائية المرقسية بالأزبكية، وأسس الكلية الأكليريكية والمتحف القبطي، ورسم 44 من الأساقفة والمطارنة، منهم قديس القرن العشرين الأنبا ابرآم - أسقف الفيوم - وآخر من بقي منهم كان الأنبا اثناثيوس - مطران بني سويف - الذي تنيح سنة 1962. وفي بداية توليه مهام البابويه، نشأ خلاف بينه وبين أعضاء المجلس الملي العام، الذي كان وكيله آنذاك بطرس باشا غالى قبل اختياره رئيسا لوزراء مصر في ما بعد، لكن النزاع انتهى لصالحه، ورغم أن أعضاء هذا المجلس هم من انتخبوا كيرلس ليصبح البابا القبطي، إلا أنه وخلافا لتوقعات المجلس أمضى الجزء الأكبر من حياته البابوية على طرفي نقيض معهم لاعتراضه على تدخل المجلس في أمور الكنيسة. كيرلس اعتلى الكرسي البابوي ورئاسة الكنيسة القبطية في الفترة من «1874 – 1927»، وهي الفترة المواكبة لحوادث كثيرة شهدتها مصر، منها الثورة العرابية ثم الاحتلال البريطاني لمصر وثورة 1919، ومواقفه الوطنية الشجاعة كان لابد منها للحفاظ على وحدة الشعب المصري، وهو ما أعجز سلطات الاحتلال عن النفاذ إلى أقباط مصر واتخاذهم ذريعة لتنفيذ مآربهم. كما ساند البابا كيرلس الخامس الثورة العرابية وقائدها أحمد عرابى، وأعلن أن الإنجليز ليسوا مجرد معتدين، بل إنهم مكمن الخطر على أقباط مصر نظرًا لأطماع الكنيسة الأسقفية الإنجليزية ونشاطها التبشيرى في مصر. عارض وبشدة مساعى كلا من اللورد كرومر واللورد كتشينر - الذي كان كل منهما يمثل بلاده في وظيفة المندوب السامى البريطانى - لوضع الكنيسة القبطية تحت الحماية البريطانية، وقد دفع ثمن مواقفه وعدم تجاوبه مع اللورد كرومر في سياسته وخططه ومطالبه، بعد أن دبر له أمرا بإبعاده وأصدر أمر بنفيه، وقال حينها: "البطريرك الذي استبعد بأمر المندوب السامى أثبت في النهاية أنه سيد الموقف"، وهو الموقف الذي سجله المؤرخ البريطانى ليدر قائلا " لقد عاد البطريرك من منفاه كعملاق تجدد نشاطه، وعملاق أيضا استخدم نفوذه وسلطانه". مصرية البابا كيرلس كانت تحتم عليه أن يقف في وجه أطماع اللورد كرومر في الكثير من المواقف، محتفظا بوطنيته وقومية كنيسته، وهوما دفع كرومر لأن يسجل في مؤلفه "مصر الحديثة" شهادة تاريخية مشرفة لأقباط مصر ومسلميها، إذ قال "إن الفرق الوحيد بين القبطى والمسلم هو أن الأول يعبد الله في كنيسته والثانى في مسجده ولا نستطيع أن نفرق بينهما". ومن نفس المنطلق الوطني آزر زعماء ثورة 1919، وبارك تآلف المسلمين والأقباط من أجل تحقيق مطالب الشعب المصري المشروعة في الاستقلال والحرية، ما دعا سعد زغلول - زعيم الأمة - إلى الشهادة بوطنية الأقباط والمواقف الوطنية لقداسة البابا كيرلس الخامس في الخطبة التي ألقاها يوم 19/9/1923، حين قال "لولا وطنية الأقباط وبطريركهم كيرلس الخامس وإخلاصهم الشديد وحبهم لوطنهم لتقبلوا دعوة الأجنبى للوقوف بجانبه، ولفازوا بالجاه والسلطان والمناصب الكبيرة بدلا من النفى والسجن والاعتقال، لكنهم فضلوا أن يكونوا مصريين معذبين محرومين من المناصب والجاه ويذوقون الموت والظلم على أن يكونوا محميين بأعدائهم وأعدائكم". نبذة البابا كيرلس الخامس ( 1874 - 1927 م.) الباب ال112 المدينة الأصلية له: تزمنت - بني سويف الاسم قبل البطريركية: يوحنا من أبناء دير: البرموس تاريخ التقدمة: 23 بابه 1591 للشهداء - أول نوفمبر 1874 للميلاد تاريخ النياحة: أول مسرى 1643 للشهداء - 7 أغسطس 1927 للميلاد مدة الإقامة على الكرسي: 52 سنة و9 أشهر و6 أيام مدة خلو الكرسي: سنة واحدة و4 أشهر و10 أيام محل إقامة البطريرك : المرقسية بالأزبكية محل الدفن : كنيسة مارمرقس بالأزبكية الملوك المعاصرون: إسماعيل باشا - توفيق باشا - عباس باشا الثاني - السلطان حسين - فؤاد الأول