تذكر حوادث التاريخ، القريب والبعيد، أنه كثيرا ما طمعت الدول الاستعمارية الكبرى فى بسط نفوذها على مصر، ربما بسبب موقعها المتميز بين قارات العالم القديم، وبالتالى فائدتها كطريق مواصلات، فضلا على خيراتها الكثيرة. وقد ظنت بعض هذه الدول، والتى كانت تدين بالديانة المسيحية، إن الأقباط (المصريين المسيحيين) من الممكن أن يساعدوهم على تحقيق مثل هذا الغرض بسبب وحدة الدين فيما بينهما، لكن تاريخ المصريين يثبت عكس ذلك تماما، فلم تكن وحدة الدين يوما ما سببا فى أن يتعاون الأقباط مع المحتلين المتفقين معهم فى الدين. ومن ذلك مثلا نتذكر هنا موقفا يعود تاريخه إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهو الموقف الذى حدث بين البابا بطرس السابع الجاولى (نسبة إلى قريته الجاولى التابعة لمركز منفلوط بأسيوط) ومندوب قيصر روسيا، تلك الدولة التى كان يدين أغلبيتها آنذاك بالمسيحية الأرثوذكسية، كما كانت أحد مراكز القوى فى العالم. والبابا بطرس السابع (1810 1852م) هو البطريرك ال 109 من بطاركة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وهو السابع بينهم الذى يُسمى باسم بطرس، وكان معاصرا لثلاثة من ولاة مصر الحديثة حتى أوائل النصف الثانى من القرن التاسع عشر، هم محمد على باشا والى مصر (1805 1848م) وخليفتاه إبراهيم باشا (1848م) وعباس باشا (1848 1854م).
تحكى إيريس حبيب المصرى فى كتابها (قصة الكنيسة القبطية الجزء الرابع) أن سفير الروسيا ذهب لزيارة الأنبا بطرس الجاولى. وكان يصحبه ترجمان يتقدمهما (الياسقجي) وهو شخص كان يسير أمام الكبراء مُعلنا قدومهم مفسحا أمامهم الطريق. ولما دخلوا حوش الدار البابوية وجدوا رجلا جالسا على الدكة تحيط به النسخ العديدة من الكتب وهو منهمك فى مطالعتها ومقارنتها. فطلبوا إليه أن يوصلهم إلى البابا المرقسى. وأصابهم الذهول حينما علموا أنه هو الذى يخاطبهم ولم يصدقوا فى بادئ الأمر. فسأله السفير عن تجاهله المظاهر الخارجية. أجابه فى وادعة «ليس العبد أفضل من سيده وسيدى كان بسيطا فى ملبسه شظفا فى عيشه». فازداد ذهولا ورأى أن يحول مجرى الحديث فسأله: «وما حال الكنيسة؟»، أجابه لفوره: «هى بخير بحمد الله. ومادامت كنيسته فهو وحده الذى يرعاها ولن يتخلى عنها أبدا». فعاد السفير يتساءل: «ألم تفكروا قط فى الحماية؟»، فاستفسر البابا عما يقصد إليه زائره. فلما أفهمه بأنهم على استعداد لوضع الكنيسة تحت رعاية قيصر الروسيا الذى له الصولة والجولة والذى جعل من نفسه حامى الأرثوذكس حيثما كانوا. وعندها سأله الأنبا بطرس: «ألا يموت القيصر الذى تصفه كل هذا الوصف؟»، أجابه بالإيجاب. فقال البابا الإسكندرى: «إننا فى حمى ملك لا يموت». فتضاعف دهشة السفير وأحس بقوة هذا الرجل المتواضع الذى كان مهيبا رغم بساطته، وقال: «حقا لم أقابل من يستحق أن يكون خليفة للسيد المسيح على هذه الأرض غير هذا الرجل الذى لم يخدعه زخرف العالم». وحالما خرج من الدار البابوية ذهب لفوره إلى قصر محمد على وسرد عليه كل ما جرى. فازداد الوالى تقديرا للبابا.
كما تتحدث إيريس المصرى أيضا فى الجزء الخامس من كتابها (قصة الكنيسة القبطية)، عن البابا كيرلس الخامس (1874 1927م) البطريرك ال 112 من بطاركة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، والذى جلس على الكرسى البابوى لنحو 53 سنة، عاصر خلالها الخديو إسماعيل (1863 1879م) والخديو توفيق (1879 1892م) والخديو عباس حلمى الثانى (1892 1914م) والسلطان حسين كامل (1914 1917م) والملك فؤاد الأول (1917 1936م).
تذهب إيريس إلى أن الإنجليز، وعقب الاحتلال البريطانى لمصر عام 1882م، قد اتبعوا سياسة (فرق تسد) بين المسلمين والأقباط، ولكن محاولاتهم فشلت أو لنقل أنها على الأقل لم تؤت ثمارها التى توقعوها. لكنهم عاودوا تشجيعهم لمدعى التبشير لعلهم يفلحون. وفى سبيل هذا الهدف قابل القنصل الأمريكى ومعه دكتور يوحنا هوج كبير المبشرين الأمريكيين البابا كيرلس الخامس. وخلال الزيارة زعم هوج أنه يستطيع طمأنة البابا الجليل فقال له بأن المدارس الأمريكية لا تعمل أكثر من تعليم الإنجيل لتلاميذها وتلميذاتها. فكانت هذه الكلمات بمثابة الشرارة إذ فجرت ثائرة البابا اليقظ فقال له: «الإنجيل الطاهر! وهل الأمريكان وحدهم هم الذين عندهم الإنجيل؟ ولماذا لا يعلمونه لعبيدهم إذا كان عندهم؟ لماذا يذهب الأخ إلى الحرب ضد أخيه؟»، فى إشارة منه إلى الحرب الأهلية التى اندلعت آنذاك بين سكان الولايات الشمالية وسكان الولايات الجنوبية من أجل الإبقاء على العبودية أو إلغائها.
وأضاف البابا قائلا: «لماذا جاءوا إلى مصر بكلماتهم الناعمة الطيبة؟ إن الإنجيل عندنا قبل أن تولد أمريكا فى الوجود. إننا لا نحتاج إليهم ليأتوا ويعلمونا فنحن نعرف الإنجيل أحسن منهم».
وتضيف إيريس: «هنا يجب أن نذكر أن احتداد البابا الوقور ومقاومته لدعاة التبشير لم يكن غير الوسيلة السلبية فى موقفه إذ قد تتبعنا أعماله الإيجابية فيما افتتح من مدارس فى رحلتيه الرعويتين».
ولعل نفس الموقف هو ما عبر عنه كثيرا البابا شنودة الثالث (1971 2012م) البطريرك ال 117 من بطاركة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، والذى رفض أكثر من مرة- فى تصريحات علنية- تلك الدعاوى الخاصة بالتدخل الأجنبى لحماية المواطنين الأقباط أو التدخل الغربى لحل مشكلاتهم.
والظن أنه سيكون نفس موقف البابا تواضروس الثانى، البطريرك ال 118، إذ نظنه خير خلف لخير سلف، فهو خليفة مارمرقس الرسول مبشر مصر بالمسيحية، خليفة 117 بطريركا كان أخرهم البابا شنودة الثالث، أكد جميعهم الانتماء للكنيسة والوطن. ذلك إنها عقيدة ثابتة فى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وموقف أصيل من مواقف آبائها