نجحت جنوب إفريقيا في تحقيق معجزة المصالحة وبناء جسور الثقة بين أبنائها في الفترة الانتقالية التي فصلت بين دولة التفرقة العنصرية وبين الدولة الديمقراطية، مستخدمة التحاور ومهارات التفاوض والاستماع الجيد، وإعادة بناء الثقة للقضاء على إرث التمييز العنصري الذي امتد لقرون، فتجربة جنوب أفريقيا ينظر إليها على أنها الأولى في العالم التي يتم فيها حل نزاع بهذه الأهمية والخطورة حلًا سلميًا. وكانت بداية نهاية نظام الفصل العنصري في فبراير 1990 عندما أعلن رئيس حكومة نظام الفصل العنصري "فردريك دي كليرك" أمام البرلمان عن التزام حكومته التفاوض من أجل مستقبل ديمقراطي للبلاد، قال دي كليرك: "آن الأوان للخروج من دائرة العنف نحو السلام والمصالحة وأن الأهداف التي نريد تحقيقها تتضمن دستورًا ديمقراطيًا جديدًا، ومنح حق الانتخاب للجميع، والمساواة أمام قضاء مستقل". وفي خطوة إيجابية رفع دي كليرك الحظر عن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC)، وحزب المؤتمر القومي الإفريقي (PAC)، والحزب الشيوعي لجنوب إفريقيا( SACP)، وتم إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين ومن ضمنهم نيلسون مانديلا، الذي قضى 27 عاما في السجن. وقد فاجأ دي كليرك العالم بإعلان نهاية حقبة الفصل والتمييز العنصري، إلا أن وقع المفاجأة سرعان ما خف كثيرًا، بعد التأكيد على أن ثمة لقاءات سرية تجرى منذ سنين بين الحكومة ومانديلا وهو في السجن ( بين عامي 1985 1990)، وكانت نتيجة ما خلص من تلك اللقاءات أزمة حادة في صفوف الحكومة وحزب المؤتمر الوطني الحاكم، ولكن الأمور توضحت باتجاه إدراك استحالة استمرار نظام الفصل العنصري، وأن البلاد ستسير نحو شراكة سلمية مع الأغلبية السوداء. وكان رجال الأعمال وأصحاب الشركات العملاقة من البيض ينوون الضغط باتجاه إحداث إصلاحات محدودة لرفع العقوبات الاقتصادية والحظر الذي فرض على شركاتهم، قيادة المؤتمر الوطني الإفريقي متمثلة بمانديلا ورفاقه، أجادوا قراءة العامل الدولي واستخدموا ذلك لإقناع نخبة الحكم بحتمية التغيير، فقدمت عرضها التاريخي بالتفاوض مع دي كليرك في 1990. وقبلت في سبيل تهدئة مخاوف الأقلية البيضاء وفتح الباب أمام انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة، تقديم العديد من الضمانات، وتمكن مانديلا من الإدارة الناجحة لعملية التفاوض الشائكة مع دي كليرك التي استغرقت بين 1990 و1994 وضمن استمرارية الزخم الإيجابي للحظة التحول الديمقراطي على الرغم من تردد الأقلية البيضاء. ولكن التحول الجذري لم يكن سهلًا، فظهر من الأقلية البيضاء من يريد التشبث بالنظام القديم، خوفًا على حياتهم وممتلكاتهم ونفوذهم وطريقة حياتهم السهلة، وحاولوا جاهدين وقف عجلة التقدم في المفاوضات المضنية مع ممثلي الأغلبية السوداء. واتفق على إجراء انتخابات عامة حرة، تشترك فيها جميع الأعراق، على قاعدة صوت واحد لكل فرد، أجريت الانتخابات العامة في 1994، فاز حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" بأغلبية ساحقة، وانتقل الحكم بطريقة سلمية وهادئة، وأصبح نيلسون مانديلا أول رئيس لجنوب أفريقيا من الأغلبية السوداء. الخبير الدولي "تشارلز فيلا" المتخصص في مجال البحوث بجامعة جورج تاون بواشنطن، يذكر أن تجربة العدالة الانتقالية في ذلك البلد بدأت على شكل محاكمات شعبية أطلق عليها لجان الحقيقة والمصالحة، عهد إليها بإماطة اللثام عن التجاوزات والجرائم وإنصاف الضحايا وصولًا إلى تسوية غير جزائية للملفات العالقة، وأن هذه التجربة نجحت بصفة خارقة وأطلق سراح الزعيم نيلسون مانديلا. وأكد تشارلز في محاضرته حول تجربة جنوب أفريقيا في تحقيق المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، أنه في عام 1995، أعطى برلمان جنوب أفريقيا تخويلا بتأسيس لجنة الحقيقة والمصالحة التي أصدرت في العام 1998 تقريرًا تضمّن شهادات أكثر من 22 ألف ضحيّة وشاهد، وجرى الإدلاء بألفي شهادة في جلسات استماع علنية عرض فيها الضحايا الجرائم التي تعرضوا لها خلال الصراعات في ذلك البلد وتم بثها عبر وسائل الإعلام، بقصد إدراك الرأي العام حقيقة تلك الجرائم، وحفظها في الأرشيف الوطني لتمكين أي مواطن يطلع عليها في الحاضر والمستقبل. وكانت هناك إشكاليات واجهت جهود المصالحة في جنوب أفريقيا في تحديد الجذور التاريخية للفترة التي ستركز عليها المعالجات- حسبما ذكر تشارلز فيلا- وكانت هناك آراء ومقترحات بأن تبدأ الفترة من بداية تواجد الاستعمار -أي قبل نحو 300 عام- ولكن تم حسم هذا الأمر، وتحديد الفترة بالمرحلة الأخيرة من ذلك العهد وهي منذ 1960، لإدراك الجميع باستحالة جدوى العودة إلى بداية الاستعمار، لأنه سيدخل البلد في متاهة ويستحيل فيها تحقيق أهداف المصالحة والعدالة الانتقالية لصعوبة توثيق الجرائم وتحديد الجناة والضحايا. وكان شعب جنوب أفريقيا- الذي يبلغ تعداده 45 مليون نسمة- أمام تحد لإنجاح هذه التجربة، والتوفيق ما بين العدالة الانتقالية، وبين جبر ضرر الضحايا لإدراك الجميع أن ذلك ضرورة حتمية لإنهاء الصراعات وحتى لايترك الباب مفتوحًا لردود فعل الضحايا، والذين قد يدفعهم الشعور بالغبن للانتقام وارتكاب جرائم بشعة. وانصبت الجهود على وضع الأسس الكفيلة بتحقيق المصالحة والعدالة الانتقالية، الأمر الذي مكن جنوب أفريقيا من الانتقال من عهد التمييز العنصري الذي كان ضحاياه كل المواطنين ذوي البشرة السوداء تقريبًا، إلى عهد جديد للدولة المدنية الحديثة وترسيخ مبادئ العدالة والمواطنة المتساوية والتبادل السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع. ومن أهم السمات التي ميزت هذه التجربة هو اتفاق الجميع على ضرورة وحتمية عدم إبقاء بلدهم رهنا للاختلافات السياسية والدينية، وألا تفرض هذه الاختلافات على المستقبل السياسي للبلد، وألا يستخدم الدين أداة سياسية لمواجهة أي شخص، وأن جنوب أفريقيا بلد متعدد الأديان ويشكل المسلمون فيه أقلية يصل عددهم خمسة ملايين شخص، فضلًا عن كونه البلد الذي يتواجد فيه أعلى فارق في الدخول بين الأغنياء والفقراء على مستوى العالم. وتم تشكيل ثلاث لجان، عملت على مدى ثلاثة أعوام من أجل تحقيق المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، منها لجنة انتهاكات حقوق الإنسان، التي دعت كل الضحايا إلى الحضور لتدوين شهاداتهم عن الجرائم التي ارتكبت بحقهم وتجاوب معها نحو 22 ألف شخص- من محاضرة تشارلز فيلا- إلى جانب لجنة الحقيقة والمصالحة، التي كانت الأولى بين تسع عشرة لجنة مشابهة في أرجاء العالم للاستماع للأقوال على الملأ، رآها الكثيرون كعنصر أساسي للانتقال إلى ديمقراطية كاملة وحرة في جنوب أفريقيا. ومنحت هذه التجربة عفوًا مشروطًا للمتورطين في الجرائم ذات الصلة بالصراعات التي شهدتها جنوب إفريقيا خلال الحكم العنصري، بحيث يأتي كل مرتكب جريمة يعترف بها علنيا ويطلب العفو عنها، وبالفعل تقدم نحو 7 آلاف شخص بطلب الحصول على العفو لكن لم يمنح إلا 1500 شخص فقط منهم، والبقية رفض طلبهم لأنهم لم يكونوا صادقين في الاعتراف بجرائمهم كاملة، أو أنهم كانوا متورطين في جرائم جنائية بحتة. في تجربة جنوب أفريقيا تم الاكتفاء بالاعتراف بما تم من الانتهاكات خلال الحكم العنصري عن طريق لجان استماع للضحايا وللجناة، أيضا مع استبعاد خيار المتابعة خصوصًا بالنسبة للفاعلين السياسيين الذين شاركوا في وضع حجر الأساس للانتقال الديمقراطي وإقرار سيادة القانون والمساواة بين المواطنين واحترام حقوق الإنسان. وقد بذلت جهود لجبر ضرر وتعويض الضحايا، وتم تشكيل لجنة للتعويضات وتوقفت كثيرًا أمام العديد من المقترحات التي كانت مطروحة لتعويض الضحايا، ومنها إما أن تتبنى تعويضات شخصية، في حدود 4 آلاف دولار لكل شخص متضرر، أم تعويضات جماعية وتركز على المشاريع العامة وغيرها. واختيرت التعويضات الشخصية للحالات التي جاءت، وعرضت الجرائم المرتكبة بحقها فقط- حسبما قال تشارلز- لأن ميزانية البلد لا يمكنها أن تتحمل صرف تعويضات لضحايا التمييز العنصري.