وعدناكم في الحلقة الماضية أن نعرض أهم تجارب الدول الأخرى في تحقيق المصالحة الشاملة بين الأطراف التي دخلت مع بعضها بعضا في صراع طويل بعد مرحلة انتقالية دامية، ومعرض ذكرنا لهذه التجارب هو الحاجة الماسة لتحقيق المصالحة العادلة في مصر؛ بحيث لا يصرّ كل طرف على الانتقام من الطرف الآخر، فتكون النتيجة في النهاية أن تحترق مصر التي قامت من أجلها الثورة. وخلال السطور القليلة القادمة سوف نعرض لتجربة نيلسون مانديلا -زعيم جنوب إفريقيا- في تحقيق المصالحة مع الأقلية البيضاء التي كانت تحكم البلاد، ومارست أفعالا عنصرية ضد الأغلبية السوداء، وبعض هذه الأفعال يرقى لدرجة التطهير العرقي، ونكتشف سويا ما إذا كانت تلك التجربة تصلح للتطبيق في مصر كلها أم بعضها أم لا تصلح من الأساس.
ولمن لا يعرف فجنوب إفريقيا هي دولة في أقصى جنوب القارة السمراء حكمها البريطانيون منذ مطلع القرن السابع عشر، وتعيش فيها أكبر نسبة أوروبيين في إفريقيا كلها، ولكنها في الوقت نفسه ذات أغلبية سوداء، وسبب هذه الأغلبية الأوروبية هي شركة الهند الشرقية التي أقامت مجتمعا كاملا من الأوروبيين الذين كانوا يديرون مصالحها في منطقة تسمى مستعمرة الكاب التي كان يقطنها الأوروبيون وبالأخص الهولنديون.
وفي عام 1948 انتصر الحزب القومي الذي يسيطر عليه الأغلبية البيضاء، وبدأوا يدخلون سياسات الفصل العنصري في تشريعات الدولة، وهنا بدأ مانديلا المقاومة غير المسلحة؛ لمناهضة هذه السياسات، ولكن حصل تطور خطير عندما قامت قوات الأمن بفتح النيران على المتظاهرين السلميين في عام 1960، وهنا بدأت المقاومة المسلحة قبل أن يتم القبض على مانديلا بعدها بعام بتهمة رئاسة الجناح العسكري للمجلس القومي الإفريقي المعارض والمنحاز لحقوق الأقلية السوداء، ليقضي خلف الأسوار أكثر من 27 عاما حتى أطلق سراحه في 11 فبراير 1990 ليتولى رئاسة المجلس الذي سُجن بسببه.
عقب خروجه من السجن ورئاسته للمجلس ثم رئاسته لجنوب إفريقيا كان أمام مانديلا حلّ من اثنين؛ إما الدخول في صراع لا ينتهي مع كل من نكّل به وببني وطنه، ومارسوا لعقود طويلة سياسات الفصل العنصري والتمييز البغيض على أرض يملكونها، وإما تحقيق المصالحة من أجل مصلحة جنوب إفريقيا.
ولكن مانديلا لم يملك في الوقت نفسه أن يعلن عن التسامح غير المشروط، وإلا اعتبر الثوار أنه قد باع قضيتهم، وأن سنوات سجنه أنسته ما حاربوا من أجله، وبالتالي كان الحلّ بالتوصل إلى المسامحة المشروطة، وبالتالي تم تشكيل لجنة "الحقيقة والمصالحة" برئاسة القسّ الجنوب إفريقي والمناضل ضد العنصرية ديزموند توتو، وكانت ذات صلاحيات واسعة، ولكن كيف استطاعت هذه اللجنة أن تحقق المصالحة التي تُرضي كافة الأطراف؟
أعطت لجنة الحقيقة الحق لشهود العيان على وقائع التعذيب والفصل العنصري في الإدلاء بشهاداتهم حول ما حدث، وكذلك أعطت الحق لبعض الجناة في الإدلاء أيضاً بشهاداتهم، وأعطتهم الحق في طلب العفو من الملاحقة المدنية والجنائية بشرطين.
الشرط الأول: ألا يكونوا متورطين في أفعال جنائية صريحة.
الشرط الثاني: أن يعلنوا اعتذارهم على الملء ويطلبوا العفو والصفح.
ولكن اللجنة في الوقت نفسه حرمتهم من مزاولة العمل السياسي لمدة من الوقت اختلفت من شخص لآخر، وأما فيما يتعلق بالضحايا فقد قدّمت الدولة تعويضات سخية جدا لأهالي الضحايا، مع ملاحقة الذين ارتكبوا أفعالا جنائية مباشرة في حقهم وتقديمهم للعدالة.
لن تصلح تجربة جنوب إفريقيا للتطبيق في مصر لو لم تتوافر الإرادة الضرورية؛ من أجل التغلّب على الرغبة الانتقامية بتحقيق المصالحة العادلة، لن تتحقق تجربة جنوب إفريقيا لو لم يكن في مصر من يرغب بحق في أن يتغاضى عن مصالحه الضيقة إلى مصالح مصر الأوسع، لن تتحقق تجربة جنوب إفريقيا ما لم تتوافر الإرادة لتطبيق محاكمات علنية لمن قتلوا الثوار وملاحقتهم جنائياً، وقتها فقط يجوز التصالح بعد تغليب الوطن على المصالح، وقتها فقط سنتحول إلى المستقبل بدلا من الماضي المستمر.