في البداية.. كنا نخشى أن تكون ذاكرة أحمد حسين الصغير، صاحب ال76 عاما، أسقطت ذكريات أيامه في السد العالى، من حساباتها، لكنه فاجأنا بتذكره أصغر تفصيلة للأيام تلك، بدءا من الليلة الأولى التي وطأت خلالها أقدامه أرض أسوان، وحتى يومه الأخير هناك. وكان وقتها ملحقا بالخدمة العسكرية، وطلب منه الانضمام إلى كتيبة العمل بالسد العالي، وكان يعمل سائقا على "لودر". "الصغير" الذي ارتسمت على وجهه علامات فخر، عندما ألقينا إليه طرف خيط الحديث عن "ذكريات السد"، قال: أول يوم نزلت فيه إلى العمل كان من أصعب الأيام وأتذكر أن عامى الأول كان في 1962 واستمريت حتى عام 1968، ووقتها عرفت أنه لا قيمة للحياة دون عمل، وهذا المشروع سوف يخدم أجيالا قادمة وأحلامى سوف تتحقق، لكن بعد تحقيق حلمنا في بناء السد العالي، وكنت وقتها ابن عشرين عامًا تقريبًا، وشعرت بالحياة من جديد في وسط الرمال الصفراء التي يعيش وسط جنباتها ما لا يتخيله عقل من ثعابين وعقارب وغيرها من الحشرات السامة والضارة للإنسان، وحشة الليل التي تذكرنا دائمًا بالأهل والأصدقاء والأحباب، والحنين إلى العودة، كل هذا لم يغلبنا. "عبد الناصر".. هكذا يسمى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، محبته للاسم ينطق بها كل حرف يخرج من فمه، فعندما تحدث عن ذكرياته الخاصة بالزيارات التي كان يجريها "ناصر" لمنطقة السد، وحديثه معهم، قال: رؤية الرئيس جمال عبدالناصر تنسينا أي شيء، والسلام علينا كان وكأننا نحتضن أهالينا، وعيناه كانت دواء لروحنا من كل العلل، لم يكن يومًا رئيس جمهورية بل كان مواطنا يحمل كل معانى المواطنة، وخلال عملى بالسد شاهدت هذا الرجل أكثر من رؤيتى لأهلي، وفى المناسبات كان يحضر معنا". "الموت تحت السد" "وسط الصفوف السمراء يسقط جدع.. الرمال الصفراء تحتضن جسده.. وروحه ترفرف فوق الأعناق مستأنسة بالذكرى والأيام اللى كانت".. الصغير،، دمعت عيناه المرهقة، لم يخف دموعه، لم يحاول حتى تركها تسرح وتعانق قسمات وجهه، ومن بينها خرجت كلمات ممزوجة بحزنه، وقال: "كنت أشاهد الموتى والمصابين في الأنفاق ولم يكن بوسعى وقتها سوى أن أحملهم لوضعهم في أماكن أعلى الجبل حتى يعرفهم من كانوا مكلفين بحمل الجثث والمصابين إلى المستشفيات الميدانية، وبعدها يتم التعامل معهم، من مات يتم وضعه في صندوق يحمل رقما، ويرسل إلى أهله، والمريض يتم علاجه حتى الشفاء، والعودة إلى العمل مرة أخرى. وكشف أنه كان يبكى سرًا في قلبه على فراق صديق الخيمة ورفيق الكفاح، ولكن دموعه تظل حبيسة عيونه حتى لا يضعف وتقهرها تلك المشاهد المؤلمة، وتجعله يفكر في الرحيل وينسى تحقيق حلمه الأكبر، مضيفًا :" كانت الأحزان تسكن قلبى وتثور كالعواصف الهادئة التي لا تخرج عن حيز جدرانى لأبكيهم حزنًا، ولكن عندما كنا نحقق إنجازا ويقترب الحلم من أرض الواقع، كنا ننسى كل شيء. وعن أصعب الأوقات التي مر بها الحاج أحمد، أوضح أنها "كانت عندما يتم تفجير الجبل بالديناميت، ويشعر كل منا أن الموت ينتظره فيذهب يستظل بحجر كبير، أو يختبئ في كهف تملأه العقارب والثعابين، ونرتمى في أحضان الموت بحثًا عنه كى نعود إلى أهالينا في صناديق مغلقة بأجساد كاملة، ولكن في لحظات الانفجار كنا نرى مشاهد مرعبة، جثثا ممزقة ومشوهة، وأجزاء تحتضنها أحجار الجبل، كانت البداية والنهاية معًا، يولد حلم وتموت معه آلاف الأجساد، من أجل حياة الملايين. واستطرد قائلًا:"الحياة التي كنا نخشاها أصبحت جزءا منا والأحجار أصبحت أرق علينا من ذوينا، والرمال تحتضن أجسادنا خوفًا علينا من أن تنهشها الطيور الجارحة والحيوانات المفترسة التي تبحث عن الطعام". وأشار إلى أن حلمه الذي ظل يراوده ليس الزواج والعمل، وإنما رؤية نقطة المياه وهى تجرى في الجبل، وينشأ السد العالى حلم الملايين من أبناء هذا الوطن، ورغم كل المشاهد الصعبة التي عشناها إلا أنها حفرت بذاكرتنا حتى صار البعض منا يتذكرها أكثر مما يتذكر أحفاده. نهاية المطاف وعن أيامه الأخيرة في أحضان السد العالى، قال: بعد الانتهاء من بناء السد العالى والاحتفال بهذا اليوم التاريخي، تم تسريحنا إلى أماكن جديدة في العمل، وتسليمنا وحدات سكنية، وكنت وقتها تزوجت حيث كنا نقضى يومين كل شهرين أو 3 أشهر، وفى البداية قضينا تقريبًا نحو 6 أشهر في العمل، وكنت أتقاضى نحو 7 جنيهات ونصف الجنيه في الشهر، وخلال هذه المدة ذقنا الوجع والألم الذي لم نتجرعه طيلة حياتنا. وتابع: وفى عهد الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك لم نستطع الوقوف في وجه الشمس التي احترقنا بنيرانها في عهد عبدالناصر ما جعلنى أبكى بكاء ملك أضاع ملكه، وغنى فقد كنوزه، وذلك عندما اتخذ قرار خصصة الشركات، ومن ضمنها الشركة التي فنيت عمرى بها، وبعدها قررت العودة إلى ديارنا، وسكنت بين جدران تلك الغرفة الموجود بها الآن فقط أنتظر مجيء الأولاد والأحفاد كى أتذكر معهم أجمل أيامى. "قناة السويس الثانية".. نقطة أخيرة تطرق إليها الحوار مع "الصغير"، فقال عنها: عندما شاهدت حفر القناة الجديدة، شعرت بروح ناصر تحلق في كل مكان لتشق الجبل وتبنى من جديد، وما فعله الرئيس عبدالفتاح السيسي في سنة قمنا بفعله في سنوات.