«الجيل» يشيد بتحركات جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة لتدعيم الإنتاج    «التموين»: وصول الطائرة الثانية من المساعدات إلى غزة    كونساه يسجل الهدف الثالث لليفربول في شباك أستون فيلا    مدرب توتنهام: جماهير الفريق لا ترغب في فوزنا على مانشستر سيتي    تطورات أحوال الطقس في مصر.. أجواء حارة على أغلب الأنحاء    أشرف زكي يكشف عن حقيقة تعرض عادل إمام لأزمة صحية: 'الزعيم زي الفل'    أحدهما محمد صلاح.. تطور عاجل في مفاوضات أندية السعودية مع ثنائي ليفربول    بعد موافقة الشيوخ.. ننشر أهداف قانون الضمان الاجتماعي والدعم النقدي    دفاع ضحية عصام صاصا: سنطالب بالدية الشرعية لقبول الصلح    خلع البدلة الحمراء.. المؤبد لقاتل زوجته لتقديمها "قربانا للجن" في الفيوم    مواعيد قطارات عيد الأضحى الإضافية.. الرحلات تبدأ 10 يونيو    فرديناند يهاجم تين هاج بسبب كاسيميرو    أحمد موسى للمواطنين: نتزنق أحسن ولا البلد تخرب.. تخيلوا أسعار السلع بدون المشروعات!    برج الجوزاء.. تعثر من يوم 16 إلى 18 مايو وانفراجة في هذه الإيام    عاجل: اللقاء المرتقب.. موعد مناظرة عبد الله رشدي واسلام البحيري مع عمرو أديب على قناة MBC مصر    فطائر المقلاة الاقتصادية.. أصنعيها بمكونات سهلة وبسيطة بالمنزل    تعرف على شروط التقديم للوظائف في المدارس التكنولوجية    أطلق النار على جاره أمام منزله..والمحكمة تحيل أوراقه للمفتي (تفاصيل)    «التعليم» تلوح ب «كارت» العقوبات لردع المخالفين    40 صورة ترصد الحشد الكبير لمؤتمر اتحاد القبائل العربية    إيرادات الأحد.. "السرب" الأول و"فاصل من اللحظات اللذيذة" بالمركز الثالث    حجازي: فلسفة التعليم المجتمعي إحدى العوامل التي تعمل على سد منابع الأمية    ما الفرق بين الحج والعمرة؟.. أمين الفتوى يجيب    أمين الفتوى: لو بتسرح في الصلاة افعل هذا الأمر «فيديو»    بدء التشغيل التجريبي للتقاضى الإلكتروني بمحاكم مجلس الدولة .. قريبا    أفغانستان: استمرار البحث عن مفقودين في أعقاب الفيضانات المدمرة    وزيرة الهجرة تفتتح ندوة "اللغة العربية مصدر الإلهام" بقصر محمد علي    الصين تدعو إلى دعم حصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة    هل يدعو آل البيت لمن يزورهم؟.. الإفتاء تُجيب    رشا الجزار: "استخدمنا قوة مصر الناعمة لدعم أشقائنا الفلسطنيين"    مشاورات بين مصر والولايات المتحدة بشأن السودان    سينتقل إلى الدوري الأمريكي.. جيرو يعلن رحيله عن ميلان رسمياً    مياه الشرب بالجيزة تستطلع رأى المواطنين بمراكز خدمة العملاء    "نيويورك تايمز": حماس راقبت النشطاء المعارضين لها من خلال جهاز سري    سيارات بايك الصينية تعود إلى مصر عبر بوابة وكيل جديد    برلماني: السياسات المالية والضريبية تُسهم في تعزيز التنمية الاقتصادية وجذب الاستثمارات الأجنبية    المفتي للحجاج: ادعو لمصر وأولياء أمر البلاد ليعم الخير    الغموض يحيط بموقف رياض محرز من الانضمام للمنتخب الجزائري    محافظ سوهاج ورئيس هيئة النيابة الإدارية يوقعان بروتوكول تعاون    رئيس جامعة قناة السويس يتفقد كلية طب الأسنان (صور)    قمة مرتقبة بين رئيس كوريا الجنوبية ورئيس وزراء كمبوديا لبحث التعاون المشترك    وزير الرى: احتياجات مصر المائية تبلغ 114 مليار متر مكعب سنويا    افتتاح أول فرع دائم لإصدارات الأزهر العلمية بمقر الجامع الأزهر    تنطلق السبت المقبل.. قصر ثقافة قنا يشهد 16 عرضا مسرحيا لمحافظات الصعيد    الرعاية الصحية: لدينا 13 ألف كادر تمريضي بمحافظات التأمين الصحي الشامل    شقق المصريين بالخارج .. خطوات حجز الوحدات السكنية بجنة ومدينتي والأوراق المطلوبة وسعر المتر    "الليجا" تكشف عن موعد مواجهات الجولة الأخيرة    الرئيس السيسي: الدولار كان وما زال تحديا.. وتجاوز المشكلة عبر زيادة الإنتاج    تحرير 92 مخالفة متنوعة خلال حملات رقابية على المخابز البلدية والأسواق    تطوير مطارات وموانئ.. مشروعات عملاقة بمحافظة البحر الأحمر لجذب السياحة والاستثمارات (صور)    شعبة الأدوية توجه نداء عاجلا لمجلس الوزراء: نقص غير مسبوق في الأدوية وزيادة المهربة    محافظ القليوبية يستقبل رئيس جامعة بنها (تفاصيل)    بينها 1000 لتر خل، إعدام 2.5 طن أغذية ومشروبات فاسدة بأسيوط    هيئة التنمية الصناعية تستعرض مع وفد البنك الدولى موقف تطور الأعمال بالمناطق الصناعية بقنا وسوهاج    وزير الإسكان يتفقد سير العمل بمشروع سد «جوليوس نيريري» الكهرومائية بتنزانيا    اليوم.. «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية بقرية في ديرمواس ضمن «حياة كريمة»    مستشار خامنئي: طهران مستعدة لإجراء محادثات مع واشنطن    الأقصر تتسلم شارة وعلم عاصمة الثقافة الرياضية العربية للعام 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمُّ كُلثوم والغناءُ الديني ..رِحْلَةُ الحَجِّ المُبارَكَةُ نموذجًا
نشر في فيتو يوم 30 - 12 - 2012

غنّت السيدة أمّ كُلثوم الكثير من القصائد الدينيّة ، منها على سبيل المثال قصائد الأوبريت الإذاعي عازفة الناي المعروف ب " رابعة العدويّة " ، والذي أذيع للمرة الأولى في مارس 1956م ، وبه عدد من الراوائع الصوفية كلّها من أشعار طاهر أبو فاشا وألحان العمالقة رياض السنباطي ومحمد الموجي وكمال الطويل ، كما غنت قصيدة بالغة العمق واروعة وهي " توبة " المعروفة ب " توبة " من أشعار الكائن النوراني عبد الفتاح مصطفى وألحان رياض السنباطي ، وللأسف لا تذاع إلا لِماما ، ولا يعرفها إلا خاصة الخاصة من محبّي فن أمّ كلثوم ، بينما تأتي أغنيتاها لرحلة الحجّ كرأس الهرم الغنائي الذي يحتفي بهذه الرحلة المباركة ، ويحتفي بها ، ولهذا ، آثرنا أن نتوقّفَ معهما كنموذج للغناء الديني لهذه السيّدة العظيمة ، وباعتبارهما نتاجا لعصارة إبداع أميرين : أمير شعراء الفصحى ، وأمير شعراء الزجل ( أو العامية المصريّة ) .
نحن إذًا أمام قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقي ، وأغنية لأمير الزجل بيرم التونسي ، الرائعة الأولى هي قصيدة " إلى عرفاتِ الله " ، والرائعةُ الأخرى التي تُضارعُها وتقفُ إلى جوارِها رأسًا برأس ، فأعني بها " دعاني لبّيتُه " المشهورةَ ب " القلب يعشق " ، ويشاءُ القدرُ أنْ تكونَا من ألحان رياض السنباطي ، أعظم من لحّنَ المعاني والصورَ فصحى كانتْ أو زجليَّةً بالعاميّةِ الدَّارجة وجَعَلَها كائناتٍ حيّةً تمرحُ في تكوينِنا وذكرياتِنا كالفراشاتِ الملوّنة :
دعاني لَبَّيتُه
( القلب يعشق )
بالرّغمِ منْ أنَّ أمّ كُلثوم قد غنّت هذه الرائعةَ الفريدةَ في الهزيعِ الأخيرِ من مشوارِها الأسطوري ، إلاَّ أننا آثرنا أنْ نأتي بها قبلَ " إلى عرفاتِ اللهِ " التي غنّتها في ديسمبر 1951م ، حتى نتهيَّأ بها للدخول إلى القصيدة .
" دعاني لبّيتُه " التي شاعتْ بعنوانٍ آخرَ هو " القلب يعشق كلّ جميل " ، كتبها أميرُ الزجلِ ، جدُّ شعراءِ العاميّةِ محمود بيرم التونسي ، ولحّنها توأمُهُ الفذُّ زكريّا أحمد منتصفَ أربعينياتِ القرنِ العشرين ، واختلفتْ معَهُ أمُّ كُلثوم حولَ اللحنِ ، فسجّلها خصيصًا لإذاعة لندن ( القسم العربي ، في 1946م ) وتذاعَ بصوتِهِ في شكلٍ مغايرٍ تمامًا لما نسمعُهُ الآن .
بعدَ رحيلِ بيرم وزكريّا بعشرةِ أعوامٍ كاملةٍ ( رحلَ بيرم التونسي في الخامسِ من يناير 1961 ، ولحقَ بهِ زكريّا أحمد في الرابع عشر من فبراير من العامِ نفسه ) ، وفي سهرةِ الخميس ، الرابعِ من فبراير 1971م كانتْ مُفاجأةُ الوصلةِ الأولى من حفلِ أمّ كُلثوم الشهريِّ هي أغنيةُ " القلب يعشق " بألحان رياض السنباطي الذي نجحَ نجاحًا ساحقًا ، للمرّةِ الثانيةِ مع أمّ كُلثوم ، في تلحينِ عملٍ سبقَ تلحينُهُ بفعلِ زملاء له ليتفوّقَ عليهم وينسيَنا اللحنَ الأوّلَ ، وكانت المرّةُ الأولى قصيدة " أراكَ عصيَّ الدمّعِ " التي غنّتها أمّ كُلثوم للمرةِ الأولى في 1926م بلحن عبده الحامولي ، ثمّ غنّتها للمرّةِ الثانيةِ بلحن زكريّا أحمد في 1944م ( والتسجيلُ مفقودٌ ، وهو من أهمِّ مفقوداتِ أُمّ كُلثوم ) ثمّ جاءَ السنباطي ليُضيفَ إلينا اللحنَ الثالثَ للقصيدةِ نعني أبياتًا منها بالطّبع لتشدو بها أمُّ كُلثوم للمرّةِ الأولى في ديسمبر 1964م ، وهو اللحنُ الذائعُ الآن .
" القلب يعشق " ، إذا وضعناها في مواجهةِ أزجالِ أمير الشعراءِ أحمد شوقي ، نجدُها الرّدَّ العملي من بيرم على شوقي ، إذ كانَ بيرم يكابدُ بالمنافي عندما بلغَهُ ما كتبَهُ شوقي بالزجلِ ، العاميةِ المصريّة ، للمطربِ الشابِ محمد عبد الوَهَّاب ، فقالَ بيرم مُخاطِبًا شوقي :
" يا أمير الشّعر غيرَكْ
في الزّجلْ يصبحْ أميرَكْ "
ولهذا قلتُ إنّ " القلب يعشق " تناطحُ " إلى عَرَفَات " رأسًا برأس !!
يستهلُّ بيرم رائعتَهُ الدينيّةَ هذهِ بلمحاتٍ فلسفيّة ، ثمّ يتهادى بين الكلماتِ متّشحًا مسحةً نورانيّةً هامسةً ، وبدونِ الإغراقِ في الترميزِ نكتشفُ أنّ الحبيبَ الذي يخاطبُهُ الشاعرُ الكبيرُ هو الحبيبُ الأعلى والأسمى والأبقى ، اللهُ جلَّ جلالُهُ ، وفي ظِلِّهِ حبيبُهُ على الأرضِ سيّدُنا وعَظِيمُنا محمّدٌ عليهِ أفضلُ الصلواتِ وأتمُّ التسليم .
يصطحبُ السُّنباطي عائلةَ الإيقاعِ في كاملِ لياقَتِها البدنيّةِ ، ويرشقُ معها القانونَ الذي تتطايرُ منهُ النغماتِ كقطعِ الضوءِ من مِسبحةٍ بينَ أصابعِ وليٍّ صالح ، وتحتشدُ الكمنجاتُ احتشادًا يليقُ بصهيلِ النايِ الذي يمرحُ في براحِ الأغنيةِ كحصانٍ أبيضَ يقطعُ المسافةَ بينَ الحرمينِ الشريفينِ ذهابًا وإيابًا دونَ أنْ تلمسَ سنابكُهُ الأرض ... ثمّ .... يبرقُ صوتُ أمِّ كُلثوم وهوَ يرتدي ملابسَ الإحرامِ ( أيضًا ) ويسبحُ بنا في نهرٍ منْ نقاءٍ وبياض :
القلب يعشق كلّ جميلْ
وياما شُفتي جَمالْ يا عين
واللي صَدَق في الحبِّ قليلْ
وانْ دامْ يدومْ يومْ والاّ يُومينْ
واللي هَويتُه اليومْ .. دايمْ وصالُه دُومْ
لا يعاتب اللي يتوبْ ، ولا في طبعُه اللومْ
واحدْ مفيشْ غيرُهْ .. مَلَا الوجودْ نورُه
دعاني لبّيتُه .. لحدّ بابْ بيتُهْ
وامّا تجلّى لي .. بالدّمْعِ ناجَيتُهْ
وبعدَ أنْ نعرِفَ الحبيبَ الذي يناجيهِ الشّاعرُ بالرّهبةِ والخشوعِ ودموعِ النّدمِ الطّاهرةِ النقيَّةِ ، يبدأُ العمُّ بيرمُ في سردِ نجواهُ ناصعةً بيضاءَ بلا تعقيدٍ أو تقعِير ، ويرسلُها سهلةً عفويَّةً تتوزّعُ بينَ مختلفِ العقولِ والأفهامِ وكأنّها الهواءُ الذي نتنفَّسُهُ بلا فرقٍ بينَ عالِمٍ أو أستاذٍ في الفِقْهِ وبينَ صبيٍّ أخطأَ طريقَهُ إلى التعليمِ واحترفَ العملَ اليدويَّ الشّاقَ في مَجْهولٍ ما .
ونحنُ عندما نُحبُّ ونختلفُ ونهجرُ ونفارقُ ، يكونُ العتابُ مُرًّا وقاسيًا ، وقد يؤدي إلى القطيعةِ بلا رجعة ، هذا الحبُّ الذي يكونُ بينَ مُتكافِئَيْنِ على الأرضِ يقومُ على الأخذِ والعطاءِ ، بينما في الحبِّ الأسمى بينَ الأرضِ والسماءِ يكونُ العطاءُ نازِلاً من الأعلى كما ينزلُ المطرُ على الأرضِ المُجْدبةِ ، إنّهُ العطاءُ اللامحدودُ لا بالزّمانِ ولا المكانِ ولا بالقدرِ أو القيمة ، العطاءُ المحفوفُ بالرّحمةِ والصّفحِ والمغفرَةِ وانتظارِ التوبةِ في أيَّةِ لحظة .. انظُرْ إلى الشّاعرِ وهو يُجَسِّدُ عظَمَةَ الخضوعِ وشرفَ العبوديَّةِ للخالقِ الأعظم :
كُنتَ ابتعِد عنُّه ، وكانْ يِناديني
ويقولْ : مِسِيرَكْ يومْ تِخضَعْ لِي وتْجِيني !!
طاوِعْني يا عَبْدِي .. طاوعْني انا وحْدي
ما لَكْ حبيبْ غيري .. قَبْلِي ولا بَعْدِي
أنا اللي أعطيتَكْ مِنْ غيرْ ما تِتْكَلِّمْ
وانا اللي علِّمْتَكْ مِنْ غيرْ ما تِتْعَلِّمْ
واللي هَدَيتُه إليكْ ..
لو تِحْسِبُه بإيديكْ
تِشوفْ جَمايْلِي عليكْ ..
مِنْ كُلِّ شيءْ أَعْظَمْ
سلِّمْ لِنا تِسْلَمْ
كُنْت .. وكانْ .... لاحِظِ العلاقةَ بينَ الفعلينِ تجدِ الثاني معطوفًا على الأوّلِ مُمَثِّلاً ردَّ فعلٍ مُباشِرًا لهُ مَقرونًا بِهِ ، فالابتعادُ عنِ المَوْلَى عزَّ وجلَّ يكونُ بالسّهوِ أو التغافُلِ أو ارتكابِ المعاصي ، أمّا النداءُ فيأتي مُباشِرًا منْ خلالِ الأوامرِ والنواهي القُرْآنيَّةِ ، وغيرَ مُباشِرٍ منْ النَّفْسِ المؤمِنَةِ اللوَّامَةِ التي تختَنِقُ مِنْ ارتكابِ الذّنوبِ والآثامِ أو مُجَرّدِ السّهوِ والابتعاد . وتَتَجَلَّى روْعَةُ التعبيرِ في الشّطْرِ الثاني عندما يقولُ الشّاعرُ :
" .... مِسِيرَكْ يومْ تِخْضَعْ لِي وتْجِيْنِي "
ما أجملَ هذا الخضوعَ وأعظَمَه !! وما أربَحَ تلكَ الرَّجْعَةَ !! إنّها الأصداءُ تملأُ الأكوانَ من حولِكَ : ... هذهِ أرضي .. وهذهِ سمائي فأينَ تَفِرُّ لِتَهْرُبَ مِنِّي ؟ ولماذا تهرُبُ ؟ إنّكَ عَبْدي وحبيبي ما دُمْتَ مُؤْمِنًا مُسْتَغْفِرًا أوّابًا مُنِيْبًا .. كُلَّما أخطأْتَ وذكَرْتَني فاستَغْفَرْتَني وجَدتَني أنا الغفور الرّحيم .. هل هُناكَ حبيبٌ آخرُ يغفِرُ لَكَ بهذِهِ السّرعَةِ ويُحِبُّكَ كلَّ هذا الحُبِّ ؟ إنَّكَ لو رُحتَ تُحصِي نِعَمِي وعطايايَ وما أَسْدَيْتُهُ إليكَ بغيرِ طلبٍ مِنكَ ، حتّى وأنتَ تُغْضِبُني وتبتَعِدُ عنْ طريقي المستقيم ، فسوفَ تقضي العُمرَ في العَدِّ والإحصاءِ ولن تصلَ أبدًا إلى نهاية ! إنني أنا الحبيبُ الذي يُعطي ويرزقُ بغيرِ حسابٍ وبغيرِ طلب ، وأنا الذي " علَّمَ الإنسانَ ما لمْ يعْلَمْ " ، وأنا القائلُ في مُحْكَمِ تنزيلي : " واللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبْصارَ والأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " ( النّحل 78 ) . أَبَعْدَ كلِّ هذهِ الآياتِ والدّلائلِ والعِبَرِ التي تملأُ نفسَكَ وتملأُ الكونَ مِنْ حولِكَ تبتعِدُ عنّي وتلتمسُ حبيبًا غيري إنْ أعطاكَ مرّةً فلن يعطِيَكَ أخرى ؟!
كانَ السُّنباطي بارِعًا إلى أبعدِ حدِّ وهوَ يقومُ بتلوينِ موقفِ العتابِ النّازلِ منَ السماءِ إلى الأرضِ بدءًا من : " أنا اللي أعطيتَكْ ........ " ، ولولا أنّها حالةٌ نورانيّةٌ خالصةٌ ينحني فيها العبدُ في أشرفِ خضوعٍ أمامَ مولاهُ الأعلى لقلتُ إنَّ السّنباطي يريدُ أنْ يباغتَنا ويلقيَنا فوقَ فوهَةِ بركان !! فبعدَ الرّقّةِ التي تقتربُ من الهمسِ في " طاوعني يا عبدي " ، يكفَهِرُّ صوتُ أمِّ كُلثوم وترتفعُ وتيرتُهُ كطائرةٍ في لحظةِ إقلاعٍ مفاجئ ، وتصلُ إلى الذّروةِ عندَ " سلِّمْ لِنا تِسْلَم " وسطَ غليانٍ موسيقي أشعرُ مَعَهُ أنّ أمَّ كُلثوم كانت تُقاتلُ حتى تصلَ بسلامٍ إلى ميم " تِسْلَمْ " لتفلِتَ مِنْ كمائنِ تقلُّباتِ الصوتِ وخياناتِهِ في مثلِ هذهِ الذّرى الشاهقة !
عندما يعودُ بنا العمُّ بيرم إلى الأرضِ ، ليصفَ لنا مكّةَ المُكرَّمةَ التي ترتدي النورَ والبياضَ اللامثيلَ لهُ ، يأتي الكمانُ في صدارةِ المشهدِ ، ويخطفُ الأضواءَ قليلاً في حضورٍ لافتٍ في بطولةٍ منفردةٍ ( صولو ) يكسرُ رتابةَ التكرارِ الموسيقي الذي يمثّلُ الجسرَ الرئيسيَّ ، أو العمودَ الفقريَّ للأغنيةِ من الاستهلالِ إلى الفواصلِ بينَ المقاطِعِ / الكوبليهاتِ ، والتمهيدِ لها :
مَكَّة وِفِيها جبالِ النّورْ
طالَّة على البيتِ المَعْمورْ
دَخَلْنا بابِ السَّلامْ
غَمَرْ قلوبْنا السّلامْ
بعفوِ ربِّ غفورْ
فُوقْنا حَمامِ الحِمَى ... عدَدْ نُجومِ السَّما
طايرْ علينا يْطوفْ ... ألوفْ تتابِعْ أُلُوفْ
طايرْ يِهَنِّي الضُّيُوفْ ... بالعَفْوِ والمَرْحَمَةْ
واللي نَظَمْ سَيْرُهْ
واحِدْ مفيش غَيرُهْ
دعاني لَبَّيْتُهْ ..لِحَدِّ بابْ بَيْتُهْ
وامَّا تَجَلَّى لي .. بالدَّمْعِ ناجَيْتُهْ
كلماتٌ تشعُّ نورًا من داخِلِها ومن جوانبِها ، الشّاعرُ يحْمِلُنا على أجْنِحَةِ السّحْرِ ونحنُ طاهرونَ مُتَعَطِّرونَ بملابِسِ الإحرام ، يصحَبُنا معه ويرينا بِقاعَ النورِ جبالاً شامِخَةً ، جبالاً ... ليستْ مِنْ صَخْرٍ ولا أحجارٍ أو تُراب ، إنها من نورٍ سماويٍّ أبديٍّ لا ينطفئُ ولا يخفتُ ولو كرهَ الكافرون .
" دخلنا باب السلام ... غَمَرْ قلوبْنا السَّلامْ " ... الفعلُ وردُّ الفعلِ متعانقانِ متلازمان .. ، " غَمَرْ قلوبْنا السّلامْ " .. صورةٌ تكتنِزُ كلّ معاني الطّمأنينةِ والأمان ، إنّكَ الآنَ في أحضانِ البيتِ العتيقِ في حِمَى الرّحمن ، القلوبُ سابحةٌ في بحارٍ من الطّهْرِ والنقاءِ والبياض ، إنّها مغمورةٌ بالعفوِ والمغفرةِ ، وأفواجُ الحمامِ تزغْرِدُ بالبُشرى وتطوفُ فوقَ الحجيجِ وكأنّها تطوفُ مَعَهُم تذكّرُهم بِحمامَتَيّ الغارِ وبطولَتِهما في بدايةِ رحلةِ هجرةِ النبيّ عليهِ الصلاةُ والسَّلام ، وكأنّ حمامَ الحِمَى هو الذّرّيةُ الصالحةُ من أحفادِ حمامَتَيِ الغارِ ، يطوفُ فوقَ البقاعِ الطّاهرةِ حاملاً الذكرى والبشارةَ ومُسافِرًا في الزّمن .
يظلُّ الشاعرُ على الأرضِ ، وربّما أعادتْهُ أفواجُ الحمامِ إلى ذكرياتِ الهجرةِ المُباركة ، فراحَ يقطعُ الطريقَ نفسَهُ من مكّةَ إلى المدينةِ ليُصلّي في المسجِدِ النبويِّ ويكحّلَ عينيهِ برؤيةِ " الرّوضةِ الشّريفة " وعندما يراها .. يراها قد أشرقت مِنَ الجَنّةِ ، ويتخطّى بنا حواجزَ الزّمنِ ويصعَدُ في مدارجِ الأصفياءِ ليجالسَ الملائكةَ ويصافحَهم ويتلقّى منهم البُشرى الثانيةَ بالعفوِ والغفرانِ ، وفي هَذهِ اللحظةِ تفصِحُ شِيَمُ الكرمِ عن نفسِها ، فلا ينسى الشّاعِرُ / الحاجُّ أحبابَهُ وأهلَهُ فيرفعُ يديهِ وصوتَهُ بالدّعاءِ لهم أنْ تتحقَّقَ أمانيهم ويحجّوا إلى بيتِ اللهِ الحرامِ ليستمتعوا ويعودوا مغفورًا لهم :
جَيْنا على رُوضَةْ هالَّة من الجنّةْ
فيها الأحبّةْ تنول كلِّ اللي تِتْمَنَّى
فيها طربْ وسرورْ ، وفيها نورْ على نورْ
وكاسْ محبّة يدورْ .. واللي شِرِبْ غنّى
وِمَلايْكةِ الرّحمن .. كانت لِنا نُدْمانْ
بالصَّفْحِ والغُفرانْ .. جايَّه تِبَشَّرْنا
يا رِيتْ حبايِبْنا ينولوا ما نلْنا
يا ربّ تِوْعِدهم ، يا ربّ واقْبَلْنا
اللهَ اللهَ اللهَ اللهْ !
لا أمْلِكُ إلّا الارتعاشَ والارتجافَ والرّهبةَ والتشوُّقَ و.... التصفيقَ الحاد .
إلى عَرَفاتِ الله
هذهِ هيَ آخرُ روائعِ أمير الشعراءِ الدينيّةِ الأربعِ التي غنّتها أمّ كلثوم ، وهي في رأيي ، وكما أسلفتُ تمثّلُ معَ " دعاني لبَّيْتُه " أو " القلب يعشق " رأسَ هرمِِ الغناءِ الدّيني لمناسبةِ الحجّ .
القصيدةُ في الأصلِ عنوانُها " إلى عَرَفات " ، كتَبَها أحمد شوقي أواخرَ العامِ 1909م ، ونشرتها مجلّة " الهلال " في عدد يناير / كانون الثاني 1910م ، وكانت " تهنئة للخديوي عبّاس بمناسبة حجّه " . وقد أحسنتْ أمُّ كُلثوم إلى الشّعرِ ، وإلى شوقي ، وإلى كلِّ ورثَةِ التراثِ الشعري بانتقاءِ هذهِ الأبياتِ المُغنّاةِ التي حوّلت القصيدةَ من وجبةِ نفاقٍ باردةٍ ، إلى دُرّةٍ مِنْ دُرَرِ الشعرِ المُغَنَّى بوجهٍ عامٍ ، ووضعتْها على رأسِ قائمةِ أُغْنياتِ الحَجِّ بوجهٍ خاص !
كانَ شوقي مُقرّبًا للخديوي ، ليسَ كشاعرِهِ أو أحدِ كبارِ موظّفي القصر ، ولكن كصديقٍ وجليس ، وحدثَ أنْ طلبَ الخديوي عبّاس حلمي من شوقي أنْ يعدَّ نفسَهُ للسفرِ معهُ لأداءِ فريضةِ الحجِّ ، وبدأَ شوقي الرّحلةَ معهُ بالفعلِ ، لكنّهُ غافلَهُ عند مدينةِ بنها وهربَ واختبأَ عندَ أحدِ أصدقائِهِ هناكَ ، ولكي يداري خجلَهُ وفعلَتَهُ ، كتبَ مطوّلةً من ثلاثةٍ وستّينَ بيتًا كوداعٍ للخديوي واعتذارٍ لهُ عمّا حدثَ ، مُتعللاً بأنّهُ لا يقوَى على ركوبِ ظهورِ الجِمالِ ومُكابدةِ مشقّةِ الطريق ، ونشرَها بمجلّة " الهلال " كتهنئةٍ للخديوي ، لكنّها جاءتْ مُلَبَّدَةً بأبياتٍ كثيرةٍ ترفعُ الخديوي إلى مقامٍ لا يستحقُّهُ ( إيمانيًّا أو سياسيًّا ) ، كذلكَ ينصرفُ شوقي إلى مدحِ السيّدةِ الفاضلةِ والدةِ الخديوي التي رافقتْهُ في هذهِ الرّحلةِ وصبرتْ على ركوبِ ظُهورِ الجِمالِ فكانتْ أقدرَ من الشاعرِ وأقوى !
كذلكَ لم ينسَ شوقي أنْ يمدحَ السلطان محمد رشاد أو محمّد الخامس الخليفةَ وقتذاك ، وبعدَ ذلكَ يعتذرُ الشاعرُ إلى اللهِ ويبتهلُ إليهِ ، ثم يشكو إليهِ حالَ المسلمينَ كعادَتِهِ متوسّلاً برسولِهِ الكريم .
غنّتْ أمّ كُلثوم خمسةً وعشرينَ بيتًا منْ هذهِ القصيدةِ ( حذفت منها ثلاثةَ أبياتٍ في بعضِ الحفلات ) ، و تصدّى السنباطي العملاقِ لتلحينِها ، وغنّتها للمرةِ الأولى في السادسِ من ديسمبر / كانون الأوّل 1951م ، وتبعتْها في خمسِ حفلاتٍ أُخرى كانت آخرها في الرابعِ من يوليو / تموز 1957م ، وقد أبدعتْ أمُّ كُلثوم أيّما إبداع في غنائِها خصوصًا في الحفلينِ الأوّلِ والأخيرِ ، وكلّما استمعتُ إليها في الحفلِ السادسِ ، الأخير ، أشعرُ أنني أستمعُ إليها للمرّةِ الأولى ، لكثرةِ ما تصرّفتْ وارتجلتْ وغيّرتْ في بعضِ الكلماتِ غيرَ التغييراتِ الثلاثةِ التي حدثتْ منذُ البداية .
كانَ الخطابُ مُباشرًا في الشطرِ الأوّلِ : " إلى عرفاتِ اللهِ يا ابنَ مُحمّدٍ " ، والمقصودُ بهِ الخديوي عباس حلمي الذي هوَ ابن الخديوي محمد توفيق ! ، فتمَّ كشطُ " ابنَ محمّدٍ " وجَعْلُها " خيرَ زائرٍ " فخرجَ المعنى منْ سجنِ المفردِ الخاصِ العَلَم " الخديوي " إلى براحِ العامِ غيرِ المعلومِ وهو خيرَ زائرٍ كلّ حاجٍ سيتّجِهُ لأداءِ الفريضةِ من أيِّ مكانٍ في العالمِ وإلى أنْ يرثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها .
التغييرُ أو التبديلُ الثاني جاءَ في الشطرِ الأوّلِ من البيتِ الثالثِ عشر من النصِّ الأصلي ، الثامنِ في الغناء :" أرى الناسَ أصنافًا ومِنْ كُلِّ بُقْعَةٍ .." فأصبحَ : " أرى الناسَ أفواجًا ..." وهوَ تعبيرٌ أدَقُّ من الأوّلِ وأعمق ، وينهلُ من المُعْجَمِ القرآني ( " ورَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ في دِيْنِ اللهِ أَفْوَاجًا ") ، أمّا التغييرُ الثالثُ والأخيرُ فقد جاءَ في البيتِ الثالثِ والخمسينَ من النصِّ الأصلي ، السادس عشر في الغناء ، وفي الشطرِ الأوّلِ أيضًا : " إذا زُرْتَ يا مولايَ قبرَ محمّدٍ " ، أصبحَ : " إذا زُرْتَ بعدَ البيتِ قبرَ محمّدٍ " .
يدخلُ السنباطي إلى القصيدةِ / الأغنيةِ وسطَ حراسةٍ مُشدَّدَةٍ من كتيبَةِ الدّفوفِ التي كانَ حضورُها طاغيًا ومؤثّرًا واستثنائيًّا خصوصًا في الحفلِ الأوّلِ ، هذا الحضورُ الذي سينسجُ السنباطي من أصدائِهِ بعد أقلَّ مِنْ عامينِ ، أي في 1953م المقدّمةَ الموسيقيّةَ لأغنية " يا رايحين للنبي الغالي " التي غنتها ليلى مراد ، وتوضعُ في ترتيب أغنيات الحجّ على مقربة من هاتين الرائعتين الكلثوميّتين .
في المرّةِ الأخيرةِ لغناء إلى عرفاتِ الله " على المسرحِ في حفلٍ عام ، أشعرُ أنّ أمّ كُلثومَ كانت تغني قصيدتَها هيَ ، تجربتَها هيَ ، إنها مُستمتعةٌ لأبعدِ حدّ ، كلّ حرفٍ يخرجُ من بينِ شفَتَيْها كأنّهُ قطعةٌ من الماسِ ملفوفةٌ في غلالةٍ من رحيقِ الضوءِ ، الحروفُ تلمعُ وتنطلقُ في الفضاءِ لتأخُذَ مواقِعَها في مداراتِ الكواكب ! كانت أمُّ كُلثوم قد ألغتْ حفلَها الشهريَّ السابق ( يونيو 1957م ، ختام الموسمِ الغنائيِّ المعتادِ لها ) إذْ أصابَتْها نوبةُ بردٍ قاسيةٍ أثّرتْ على أُذنيْها وسبَّبَتْ لها آلامًا ودُوارًا ، فاعتذرَتْ ، وتأجّلَ الحفلُ إلى يوليو الذي صادفَ الاستعدادَ للسفرِ لأداءِ الفريضةِ ، وبناءً على طلبِ الجمهورِ غنّتِ القصيدة ، لكنّني أراها تُغنّي بناءً على طلبِ روحِها ، وأراها تُغنّي وكأنَّها تغنِّي لروحِها بغيرِ جمهورٍ أو موسيقى ، وربّما خَشِيَتْ على نفسِها ألاّ تصلَ بالأداءِ مرّةً أخرى إلى هذهِ الحالةِ الاستثنائيّةِ فآثرتْ ألا تغنّيها بعدَ تلكَ الليلة :
إلى عَرَفَاتِ اللهِ يا خَيْرَ زائِرٍ
عَلَيكَ سَلامُ اللهِ في عَرَفاتِ
ويومَ تُوَلِّي وُجْهَةَ البَيْتِ ناضِرًا
وَسِيمَ مجالي البِشْرِ والقَسَمَاتِ
على كُلِّ أُفْق ٍ بالحِجاز ِملائِكٌ
تَزُفُّ تحايا اللهِ والبَرَكاتِ
لدى البابِ جِبريلُ الأمينُ بِراحِهِ ..
رَسَائِلُ رَحْمانِيَّة ُالنَّفَحَاتِ
وفي الكَعْبَةِ الغَرَّاءِ رُكْنٌ مُرَحِّبٌ
بكَعْبَةِ قُصَّادٍ ورُكْنِ عُفاةِ ..
وزَمْزَمُ تجري بَينَ عَيْنَيْكَ أْعْيُنًا..
مِنَ الكَوْثرِ المعْسُولِ مُنفَجِراتِ
جاءَ التغييرُ في البيتِ الأوّلِ موفَّقًا إلى أبعدِ مدى ، وبما أنَّ " الحجّ عرفة " فقد أصابَ شوقي بتكرارِهِ كلمةَ " عرفات " في البيتِ الأوّلِ ، فرنينُ الكلمةِ في أوّلِ البيتِ وآخرِهِ يأخذُنا مباشرةً إلى " عَرَفات " ، وتظلُّ الصورةُ ثابتَةً في الذّهنِ طوالَ القصيدةِ / الأغنية ، وتتحوّلُ القصيدةُ إلى نهرٍ من البياضِ بملابسِ الإحرامِ ، تُمارِسُ فيهِ المُفرداتُ والمعاني طقوسَ الطّوافِ والدّعاءِ والتلبية .
بعدَ هذا الاستهلالِ البديعِ ينصرِفُ شوقي إلى وصفِ المنظرِ العامِ لحُجّاجِ بيتِ اللهِ الحرامِ ، إنّهم الطاهرونَ الأنقياءِ الذينَ أتَوا من كلِّ فجٍّ عميقٍ من مشارِقِ الأرضِ ومغارِبِها ، كُلُّهم متساوونَ في ملابسِ الإحْرامِ وفي ممارسةِ الشعائرِ ، لا تعرفُ غنيًّا من فقيرٍ ولا أفريقيًّا من آسيويٍّ فالجميعُ على أرضيَّةٍ واحدةٍ وكأننا في يومِ الموقفِ العظيمِ ، يومِ القيامة :
لكَ الدِّينُ ياربَّ الحَجِيجِ جَمَعْتَهُمْ ...
لبيتٍ طَهُورِ السَّاحِ والشُّرُفاتِ
أرى النَّاسَ أفْوَاجًا ومِنْ كُلِّ بُقْعَةٍ
إليكَ انْتَهَوْا مِنْ غُرْبَةٍ وشَتَاتِ
تساوَوْا فلا الأنْسابُ فيها تَفاوُت ٌ..
لديكَ ولا الأقْدارُ مُخْتَلَفاتِ
ونأتي إلى الموقفِ الذاتي للشاعرِ ، موقف الاعتذارِ الذي ينحني فيهِ شوقي أمامَ اللهِ عزَّ وجلَّ مُلْتمسًا العفوَ من الغفورِ الرّحيمِ إذْ هربَ وتقاعسَ عن أداءِ الفريضةِ مع الخديوي ، فيدعو اللهَ أنْ يتجاوزَ عن هذهِ الهفوةِ ، وأنْ يمحوَ كلَّ الصفحاتِ السوداءِ في كتابِه ، وهذا المقطعُ من أصدقِ ما جاءَ في شعرِ شوقي ( وليسَ في قصيدتِنا هذه ) ، ولذلكَ تعاملَ معَهُ السنباطي بحذرٍ ورقّةٍ وملأهُ بالموسيقى المُبللةِ بالدموعِ ، وأعطى صوتَ أمِّ كُلثوم البطولةَ المُطلقةَ فيهِ إلى الدرجةِ التي تُشْعرُنا أنَّ أمّ كُلثوم كما أسلفتُ تغنّي ، تتحدّثُ عن ، تجربتِها هيَ ، وهو المقطعُ الذي تصرّفتْ فيهِ من تلقاءِ مشاعرِها ، وغيّرتْ في بعضِ الكلماتِ ، فقالتْ : "الغفَوَات " بدلاً من " الهفوات " ( مع العودةِ إلى " الهفواتِ " في التكرار ) ، كذلكَ جاءتْ ب " وتعْلَمُ "بدلاً من "وتشهدُ " ( وعادت أيضًا إلى " وتشهدُ " ، غيرَ أنّ صوتَها قد وصلَ إلى درجةِ الذّوبانِ التّامِ ليتحوّلَ إلى قطراتٍ من الدّموعِ السّاخنةِ تتسابِقُ فوقَ فضاءٍ من الحريرِ الأبيض :
ويا ربِّ هلْ تُغْني عنِ العَبْدِ حَجَّةٌ ...
وفي العُمْرِ ما فيهِ مِنَ الهَفَوَاتِ
وتَشْهَدُ ما آذَيْتُ نَفْسًا وَلَمْ أَضِرْ...
ولمْ أَبْغِ في جَهْرِي ولا خَطَرَاتي
ولا حمَلَتْ نَفْسٌ هَوَىً لبِلادِها ...
كَنَفْسِيَ في فِعْلي وفي نَفَثاتي
وقدَّمْتُ أعذاري ، وَذُلِّي ، وخَشْيَتِي ..
. وجِئْتُ بِضَعْفِي شافِعًا وَشَكاتي
وأنْتَ وَليُّ العَفْوِ فامْحُ بِناصِع ٍ
مِنَ الصَّفْحِ ما سَوَّدْتُ مِنْ صَفَحَاتِ
وَمَنْ تَضْحَكِ الدُّنْيا إلَيْهِ فَيَغْتَرِرْ ..
يَمُتْ كَقَتِيْلِ الغِيْدِ بالبَسَمَاتِ
تنْبَعِثُ الحرارةُ في الموسيقى ، وتلتهبُ الدفوفُ والكمنجاتُ تمهيدًا للإقلاعِ إلى ذروةٍ أخرى في القصيدةِ / الأغنيةِ ، وندرُكُ على الفورِ أنّ انتقالاً ما قادمٌ لا محالةَ ، وبالفعلِ هو انتقالٌ على الأرضِ ، وفي صُلْبِ النَّصِّ ( كانتْ أمُّ كُلثومَ قد أسقطت الأبياتَ الثلاثةَ التي تسبقُ البيتَ الأخيرَ في المقطعِ التالي في عدّةِ حفلاتٍ ، منها الحفل الأخير ):
إذا زُرْتَ بَعْدَ البَيْتِ قَبْرَ محمدٍ ...
وقَبَّلْتَ مَثْوَى الأَعْظُمِ العَطِرَاتِ
وفَاضَتْ مِنَ الدَّمْعِ العُيُونُ مَهابَةً ...
لأَحمَدَ بينَ السِّتْرِ والحُجُرَاتِ
وأشْرَقَ نُورٌ تحتَ كُلِّ ثَنِيَّةٍ ...
وضَاعَ أَرِيْجٌ تحتْ كُلِّ حَصَاةِ
فَقُلْ لِرَسُولِ اللهِ يا خَيْرَ مُرْسَل ٍ ...
أَبُثُّكَ ما تَدْرِي مِنَ الحَسَرَاتِ
شُعُوبُكَ في شَرْقِ البِلادِ وَغَرْبِهَا...
كأصْحابِ كَهْفٍ في عَمِيقِ سُباتِ
بأَيْمانِهِم نُورانِ ذِكْرٌ وَسُنَّة ٌ....
فما بالُهُم في حَالِكِ الظُّلُماتِ ؟؟
وذَلِكَ ماضي مَجْدِهم وفَخارِهمْ
فما ضَرَّهُمْ لو يَعْمَلُونَ لآتي ؟
وهذا زَمانٌ أرْضُهُ وسَماؤُهُ
مجالٌ لِمِقْدامٍ كبيرِ حَيَاةِ
مَشَى فيهِ قومٌ في السّماءِ وأَنْشَأُوا
بَوَارِجَ في الأبْراجِ مُمْتَنِعاتِ
وقُلْ رَبِّي وَفِّقْ للعَظائِمِ أُمَّتي
وزَيِّنْ لَها الأفْعَالَ والعَزَمَاتِ
كعادَتِهِ ، يصبغُ شوقي نهاياتِ قصائدِهِ الدّينيةِ بألوانِ الأسى والحسرةِ ، ويتوسَّلُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ برسولِهِ الكريمِ أنْ يوفّقَ الأمّةَ لتفيقَ من نومِها العميقِ ، وأنْ تخرجَ من الظُّلماتِ التي تتخبّطُ فيها بالرّغمِ من كونِها تحملُ في أيمانِها أطهرَ نورينِ ، القُرْآنِ والسنّةِ النبويّةِ الشريفة ، وقد كانَ اللهُ رحيمًا بشوقي وبكلِّ هؤلاءِ العظماءِ الذينَ لو رأوا ما آلتْ إليهِ أحوالُ أمّتنا اليومَ لماتوا حسرةً وكمدًا .
ندعو اللهَ أنْ يوفّقنا للعظائمِ ، وأنْ يحقّقَ أمنيةَ كلَّ مُشتاقٍ لأداءِ فريضةِ الحجِّ وأنْ يُيسِرَ لهُ سبيلَها ، ويتقبَّلَها منه .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.