لابد أن يحاكم النظام السابق لمسئوليته عن أمية المصريين برحيل البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية، وبطريرك الكرازة المرقسية( 1923 – 2012)، قبل عام بالتمام والكمال، فقدت مصر واحدًا من أهم أعمدة الوحدة الوطنية، وحارسًا أمينًا على نسيج الشعب المصرى، مما منحه قيمة وقدرًا عظيمين فى قلوب المصريين، ليس لأنه كان على رأس الكنيسة المصرية، ولكن لأنه كان رجلًا وطنيًا بامتياز، ولعل مشهد تشييعه أكبر دليل على الحب الذى كان يكنه له المصريون، مسلمين وأقباطًا. ومن غرائب الأقدار أن الطفل «نظير جيد»، الذى أصبح لاحقًا «البابا شنودة الثالث»، تربى فى كنف أسرة مسلمة؛ ليصبح الرمز المسيحى الأرثوذكسى الأول فى مصر لما يزيد على الأربعين عامًا ليكون شعاره دائما «مصر وطن لا نعيش فيه ولكنه وطن يعيش فينا» وفى مناسبة مرور عام على رحيله، ذهبت إليه فى عالمه الآخر فوجدته بين أصوات التسبيح الممجدة لله. وفى أجواء لم ترها عين و لم تسمع بها أذن. كان قداسة البابا شنودة الثالث جالسًا تحت ظلال الرحمة فى فردوس النعيم، يدندن كعاشق للشعر بالبيت المشهور لأمير الشعراء أحمد شوقى (وطنى لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتنى إليه فى الخلد نفسى) مما شجعنى على الاقتراب من قداسته وسألته فى جسارة: - أمازلت تذكر مصر وقداستكم فى فردوس النعيم؟ - مصر ما زالت وسوف تظل تعيش فى ثورة. فلقد شرب كل الجيل الذى نمى على أهداف ثورة 1919 ومصر تملأ كيانه وتضىء روحه، وكيف أنساها وقد صليت آلاف القداسات على أرض مصر، وفى كل واحد من هذه القداسات، كنت أصلى من أجل نيل مصر، وزروع مصر وهوية وثمار وجو وقادة مصر، بخور هذه الصلوات المقدسة صعدت هنا معى، لذلك مصر وطن لا ينسى ولن ينسى. هل يشغلك ما يحدث من تقلبات سياسية، وتراقب مستقبل الحكم فيه؟ - بلا شك، مصر ليست محطة عابرة، إنها الجذر النابت فى القلب، ولذلك أسال نفسى كما سألت فى آخر مقال كتبته، وكان يحمل عنوان «مصر بلادنا المحبوبة إلى أين؟»، وقلت تمر مصر بأيام عصيبة جدًا لاندرى بها كيف سيكون المصير، الكل يقول إلى أين؟ هكذا تقول الجرائد ويقول المفكرون وتقول الفوضى، الحالة فى كل مكان. وكيف تنطق الفوضى يا سيدنا؟ - الفوضى تكشف عن خلل كبير فى الأمن، مما يؤثر على شكل الحياة والاقتصاد والسياحة، بل والقرارات أيضا، والخوف أن تؤدى الفوضى إلى قرارات فوضوية، وأنا كالملايين من الرعية أشعر بقسوة أكبر مشكلة تعانى منها الأسرة المصرية وهى مشكلة غياب الأمن، فمتى يتم أمن يساعد الإنسان على حماية نفسه وعائلته و زوجته وأطفاله من حوادث الخطف العجيبة التى كونت فى قلوب الكثيرين نوعًا من القلق ومن الخوف، خاصة وهم يرون أمامهم خطف تلاميذ وتلميذات وأطفال من المدارس والشوارع والسرقات وغيرها، ولا أدرى ماذا تنتظر وزارة الداخلية لكى يعود الأمان. وماذا يقلقك أيضا يا سيدنا؟ - أخشى أن أقول إن مصر يتحكم فى مصيرها رجل الشارع. أليست هذه الديمقراطية؟ - لا، أنا لست ضد الديمقراطية، ولكن أتحدث عما قرأته يومًا لعميد الأدب العربى طه حسين حيث قال: «إن أصعب طغيان هو طغيان الشعوب»، وأنت تجد النتيجة القادمة من هذا التشرذم بين الناس فى الشارع؛ نتيجة لتفشى الأمية، هل هناك أحد يمكن أن ينكر أن نسبة الأمية الكبيرة هذه تؤثر على اختيارات الشعب، ثم أن مونتسكيو فى كتابه «روح القوانين» أكد أن الديمقراطية لا تتفق مع الأمية، هذا إلى جانب تراجع نسبة القراءة المخجل الذى أكده تقرير التنمية البشرية ، الذى أشار إلى أن نصيب القارئ العربى خمسة أسطر فى السنة على ما أذكر، لذلك أود أن أضيف صلاة من أجل أن يقرأ المصريون، وكنت طوال حياتى أرفع شعار (امح الذنب بالتعليم) وهو الشعار الذى أتمنى أن تتخذه الجمهورية الثانية كمبدأ لا تحيد عنه، أما الانقياد وراء برامج التوك شو والاعتماد على الشفاهية والسماعية فيجعلان الشائعة هى الأصل والمعلومة ضائعة، أما الحقيقة فلا موضع قدم لها. ولكن الأمية وغياب النضج هما نفس حجج النظام السابق لتبرير ديكتاتوريته؟ - هى حجج بالنسبة لهم؛ لأن أيديهم كانت قادرة على تغيير هذه الوقائع، ولكن عندما نراها نحن نراها كنتيجة لهذا النظام السيئ الذى حافظ على وجود الأمية والجهل وتفشى التخلف، ونعاقبه لأنه هو المتسبب فيها، ولكن مسئولية النظام عن هذا الوضع لا تلغى وجوده، وليس أصدق على كلامى إلا حالة التخبط التى تمر بها مصر، نتيجة للاختيارات غير الناضجة، مثل، التصويت على إجراء الانتخابات قبل وضع الدستور، الأمر الذى كان واضحًا أنه خطأ عند المستنيرين، ولكن رجل الشارع اختار خطأ، وبعد كل هذه القلاقل والكوارث عادوا مؤخرا ليؤكدوا خطأهم على التصويت بنعم، إذن هنا تكمن الخطورة، لأن غياب التعليم المبدع يؤدى لغياب الرؤية وسهولة الانقياد، لذلك فرجل الشارع بهذا المعنى يتحكم فى مصير بلد بأكمله، وهو تعلم قد يدمر المستقبل، خاصة أن هناك أمورًا لا يمكن التراجع عنها. أشرت فى إحدى المرات إلى أن الثورة اُغتصبت وإن كنت لم تذكر من الذى اغتصبها؟ - الجميع يعرف من هم الذين اغتصبوا الثورة، ولكن دعنى أقل لك إن هذا الخطف والاغتصاب كان واضحًا للعيان منذ اندلاع الثورة. ألهذا كنت رافضًا للثورة؟ - أى محلل يعلم أن هناك تيارًا متربصًا للحكم منذ أكثر من 80 عامًا، والكرسى هو حلمه الأول والأخير، دفع فى ذلك الكثير من الاتفاقيات والمعاهدات وارتكب جرائم وصلت لحد الدم، ثم إن النظام السابق كان تاركًا لهم الشارع بأكمله، يقيمون مستشفيات ومستوصفات وحضانات ويقدمون خدمات اجتماعية متميزة، وينظمون مؤتمراتهم وانتخاباتهم، فى الوقت الذى كان يحبس فيه التيارات الليبرالية والمدنية فى أحزاب من كرتون وضع لها كل الحواجز والعوائق لكى لا تصل لرجل الشارع، فمن إذن كان البديل الجاهز غيرهم؟! هل تخاف على أولادك الأقباط منهم؟ - الكتاب المقدس يعلمنا أن الخوف خطيئة، وقد مر تاريخ كنيستنا المصرية بأحلك فترات الحكام الظالمين، وظلت الكنيسة وأبناؤها موجودين وأقوياء رغم هذه الظروف السيئة لذلك لا خوف أبدًا ولكنى أطلب منهم المشاركة الجادة وترك السلبية. وعاد يرنم! إن أبواب الجحيم لن تقوى على مصر C.V - ولد البابا شنودة الثالث، وكان اسمه نظير جيد روفائيل، فى 3 أغسطس من العام 1923، وهو البابا رقم 117 لأقباط مصر. - الراحل كان أول أسقف للتعليم المسيحى قبل أن يصبح البابا، وهو رابع أسقف أو مطران يصبح بابا بعد البابا يوحنا التاسع عشر ومكاريوس الثالث ويوساب الثانى. - التحق البابا شنودة بقسم التاريخ فى جامعة فؤاد الأول، حيث درس التاريخ الفرعونى والإسلامى والحديث، وحصل على الليسانس بتقدير ممتاز عام 1947. - فى السنة النهائية بكلية الآداب التحق بالكلية الإكليركية، وبعد حصوله على الليسانس بثلاث سنوات تخرج فى الكلية الإكليركية وعمل مدرسًا للتاريخ حيث حاضر فى كلية اللاهوت القبطى. - كان يحب الكتابة وخاصة القصائد الشعرية وعمل لعدة سنوات محررًا ثم رئيسًا للتحرير فى مجلة «مدارس الأحد» وفى الوقت نفسه كان يتابع دراساته العليا فى علم الآثار القديمة. - بعد وفاة البابا كيرلس فى 9 مارس العام 1971 توج البابا شنودة للجلوس على كرسى البابوية فى الكاتدرائية المرقسية الكبرى بالقاهرة فى 14 نوفمبر 1971 وبذلك أصبح البابا رقم (117) فى تاريخ البطاركة. وقد أولى اهتمامًا خاصًا لخدمة المرأة فى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. - عرف عن البابا شنودة رفضه لاتفاقية السلام مع إسرائيل، وأكد ذلك برفضه الذهاب مع الرئيس الراحل أنور السادات إلى إسرائيل عام 1977.