لم يكن "بيرم التونسى"، و"محمد عبد الوهاب"، و"أسمهان" منصفين، عندما قدموا أغنية "محلاها عيشة الفلاح، مطمن قلبه مرتاح"، قبل أكثر من 7 عقود، يبدو أنهم كانوا يتحدثون عن صنف من البشر لم يعلموا عنه شيئا، ربما قصدوا الفلاح الأمريكى أو السويدى أو الألمانى، أما الفلاح المصرى فلم يكن يوما "مرتاح البال"، بل تتداعى إليه الهموم، وتتهافت عليه الكروب، جيلا وراء جيل، لا يحنو عليه نظام سياسي، ولا تشعر به حكومة أيا كانت أيدلوجيتها وطبيعة تركيبتها، الفلاح المصرى ساقط دائما من اهتمامات الحكومات المتعاقبة، تنظر إليه باشمئزاز، تعامله بتجاهل، لا توفر له أدنى مقومات الحياة، الفلاح المصرى لا يدخل ضمن مظلة التأمين الصحى ولا المعاشات ولا أي شيء، اللحظة الوحيدة التي تتذكره فيها الحكومة، عندما تعتزم الزج به إلى غياهب السجن، بسبب قرض اقترضه من بنك التنمية والائتمان الزراعى، وعجز عن سداده، الفلاح المصرى يقدم لوطنه ما لا يقدمه كثيرون، يزرع ويغرس ويحصد في أجواء صعبة، ولا يكاد يجنى شيئا من تعبه وعرقه، أما غيره فيعيشون عبئا على وطن لا يوقر من يستحق التوقير، ويقدر من لا يستحق التقدير، الفلاحون في مصر يقتربون من 40 مليونا، ما يعادل 45% من إجمالى السكان، ويسهمون بنسبة 37% من الاقتصاد القومي، وتمثل الأيدى العاملة في مجال الزراعة 30% من القوى العاملة في الدولة، بحسب إحصائية رسمية صادرة عن الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، ورغم ذلك، فإنهم يذوقون الأمرّين، ويعانون من أزمات لا تنتهى، من بينها: نقص مياه الرى وارتفاع أسعار الأسمدة والمبيدات وزيوت الديزل اللازمة لتشغيل آلات ضخ المياه، وليس آخرها قروض بنك التنمية والائتمان الزراعى التي تقوده "غالبا" إلى السجن، لأنها تتراكم وتتضاعف بوتيرة متسارعة، بما يكلف الفلاحين ما لا طاقة لهم به، قطاع الزراعة في مصر "في غرفة الإنعاش". كثير من الفلاحين، لا سيما أصحاب المساحات الصغيرة، والحيل المعدومة، والأيدى المغلولة، يرون في بنك التنمية والائتمان الزراعى "قاهرا وجلادا لهم"، يذكرهم بالأيام الخوالى، في زمن الاحتلال والاستعمار، مؤكدين أن البنك الذي أنشئ من أجلهم، تحول إلى أداة لإذلالهم وقهرهم، ويكفى أن سعر الفائدة على القروض طويلة الأجل يصل إلى 19% ومتوسط الأجل 17%، ما يعنى أن البنك لا يخدم الفلاح، ولكن يذبحه بسكين باردة، وكم من فلاح عجز عن تسديد قرض بسيط لا يتجاوز ثمن دراجة شاطئية يلهو بها ابن أحد الذين يقترضون الملايين من البنوك دون أي ضمانات، واللافت أن البنك الذي يمتلك موارد لا تعد ولا تحصى لا يدر ربحا بل يحقق خسائر فادحة ومتراكمة بلغت في أحدث إحصائية 4 مليارات جنيه، في وقت يدور فيه الحديث عن وجود توجه لنقل تبعية البنك من وزير الزراعة إلى البنك المركزى، وسط تحذيرات من متخصصين عن فداحة هذا القرار لو تم اتخاذه، فيما حذر خبراء من أن تحويل البنك لشركة لديها أصول رأسمالية سيزيد من احتمالية إخضاعها للقطاع الخاص بنسبة كبيرة، ما سيجعل رقبة المزارع تحت رحمة أصحاب رأس المال، وبالتالى يكون البنك قد خرج عن دوره الأساسى في مساعدة الفلاح وتوفير مستلزمات الإنتاج.. "فيتو" تناقش عبر الصفحات التالية ماضى البنك وحاضره ومستقبله بعدما صار جلادًا للفلاحين..