رمضان فى حقبة السبعينيات كان له ملمح فريد وهو عبد الرحمن الابنودى وربابة السيد الضوى ومن بعده ربابة جابر أبو حسين وسيرة بنى هلال وكان السر فى ذلك عدم وجود تلفاز ولا كهرباء فى أغلب قرى مصر بمعظم المحافظات وانتشار الراديو ائنذاك فى معظم البيوت الريفية. الشهر الكريم رفع الأبنودى فى عنان السماء وجعل له شهرة لم يحظ بها أى شاعر غيره لدرجة أن كل الجيل القديم من الفلاحين والعمال حفظوا اسمه عن ظهر قلب قبل ان ينتشر اسمه كشاعر غنائى. فى تلك الحقبة كان الفلاحون ينامون جميعا من بعد صلاة العشاء حيث لم يكن لديهم فوازير ولا مسلسلات درامية رمضانية تشغل بالهم وتجعل بعضهم يسهر للفجر لعدم وجود كهرباء من الأساس وكان الراديو وسيلتهم الوحيدة للثقافة والتسلية فى رمضان وكان الابنودى يأتى الساعة العاشرة مساء كل ليلة جمعة ليحكى سيرة بنى الهلال وسط شغف شديد من الفلاحين لمعرفة أخبار ابو زيد الهلالى وصراعه الدائم مع خصمه العنيد الزناتى خليفة. اختيار يوم الجمعة كان اختيارا ذكيا فهو يوم إجازة والفلاحون والعمال يرتاحون فيه بشكل يجعلهم قادرين على السهر ليلة السبت للساعة الحادية عشرة فى رمضان. كان المشهد فى منتهى الجمال ائنذاك فالفلاحون يفرشون الحصر على مصاطبهم التى امام بيوتهم ويشعلون النار على المناقد لعمل الشاى الفلاحى وامامهم لمبة صفيح كانت تعمل على الجاز وكان الغنى منهم ينير احد الكولبات فى جلسة سمر يستمعون خلالها للابنودى مستمتعون بطريقة ادائه باللهجة الصعيدية وهو يقول قول "ياعم سيد" ومن بعده قول "ياعم جابر" . وفى صباح السبت تبدأ الناس تتحاكى بما دار فى الحلقة من معارك بين ابطال سيرة بنى هلال وخاصة أبو زيد الهلالى والزناتى خليفة وأبو زيد ودياب بن غانم وكان الناس يداعبون بعضهم باقوال يسمعونها من الابنودى وشاعر الربابة فيقول احدهم "انا الزناتى خليفة ابو حربة رهيفة تنفد من الحجار" فيرد عليه الاخر مسرعا "انا الجار هاجرس أقوى من ابوك وافرس ومعرفش الهزار" . الناس على فطرتها ائنذاك كانت لديها احساس عال بالقيم والعظات الموجودة فى السيرة الهلالية والتى كان يحكيها الابنودى وكأنه جالس معهم على المصطبة ويشرب معهم الشاى فمنها فهم الفلاحون كيف يكون شعور الام تجاه اولادها عندما يضطرون للبعد عنها فجأة ويهاجرون لبلد آخر وهى حكاية هجرة أبو زيد الهلالى من تونس هو وأولاد اخته حسن ويونس حيث اوصت امهما ابو زيد بوصايا حفظها الفلاحون ائنذاك عن ظهر للقلب للمعانى الجميلة التى فيها حيث قالت الام لهم وهى تودعهم "امانة يا ولادى .. ما تمشوا متجمعين سوا .. دى العين فى المجمعين بتصيب"، "امانة يا ابو زيد ما تشعل النار فى الخلا .. دى النار تضوى .. والطريق يجيب"، " أمانة يا ولادى ما تناموا تحت حيطة مايلة .. دا البنا يبنى والاثاث يخيب". وهي وصايا فيها خوف الام على اولادها من الحسد ومن قطاع الطرق ومن مافيا فساد البناء التى مازالت موجودة فى مصر للآن بدليل عمارات الاسكندرية التى تنهار كل عام. اجمل الحلقات التى كان الابنودى وعازف الربابة يشدان الناس فيها خلال الشهر الكريم كانت تلك الخاصة بالمعركة التى دارت بين رزق بن نايل وأبو زيد الهلالى وكان فيها الاب والابن يحاربان بعضا دون ان يعرفا ذلك وقلب ام الابن ينفطر ألما لان الابن أو الاب احدهما سيقتل الآخر ولم يكن ابو زيد يعرف انه يحارب ابيه الذى رفض الاعتراف ببنوته بعد ان وجده اسمر غطيس حسب وصف الابنودى فى حيان كان هو وامه بيض اللون. فى تلك الحلقة بالذات التى كان يكثر فيها السيد الضوى من قول "ابو زيد يجيلو بحربة على قد عرضه وطوله .. نايل يجيله بحربه على اد عرضه وطوله" حاكيا سردا وربابة كيف شلت يد الأب عن قتل ابنها عندما واتتها الفرصة وكذلك الابن عندما واتته الفرصة وشعور الاب بانه باحساس الدم بان من يحارب ابنه واحتضانهما لبعضهما البعض واعتراف الاب ببنوته لابوزيد كانت الناس تواصل السهر حتى السحور. النساء هن الاخريات كن شغوفات للغاية بقصة ابو زيد الهلالى كما يسردها الابنودى ويرويها عازف الربابة وكن يتحاكين ماحدث فى كل حلقة وهن يحملن على روؤسهن الزلع ويتلاعبن بنصفهن السفلى وكأن كل واحدة منهن ترى فى زوجها ابو زيد الهلالى سلامة وذلك فى مشهد جميل وهن سائرات فى صفوف متتالية وهو المشهد الذى اخذت منه فكرة اغنية "البحر بيضحكلى وانا ماشية ادلع املى القلل".