"تن ترارارا تن تن"، قد تكون أشهر جملة موسيقية في مصر والوطن العربي، أبتكرها "حمادة سلطان" لتعقب نكاته السريعة، المرحة، الذكية، التي تنطلق في سيل يكاد لا ينقطع إلا لمشاركة الحاضرين ضحكاتهم، وقهقهاتهم، لتتحول تلك الجملة الموسيقية بعد ذلك إلى جزء أصيل في أي "شو كوميدي"، سواء ببرنامج تليفزيونى أو على خشبة المسرح. كان محمد عبد الغالي، الشهير باسم حمادة سلطان، ابن محافظة أسوان، كوميديانًا من نوع فريد، أذاقته الحياة منذ الصغر مر صعابها، ليصنع منها في شبابه معسول الكلام، يدخل به الفرح على القلوب، والحكمة إلى الأذهان، والضحكة على الشفاه، ويصبح بعد عشرات السنين "صاروخ الكوميديا" ليس فقط في مصر ولكن في الوطن العربى بأكمله. "سلطان" أبصر النور عام 1941، في حى شبرا بالقاهرة، بعد أن هاجر والده من "إدفو" شابا إبان الحرب العالمية الأولى، ولكن لم تمهله الحياة كثيرا، فقد باغت الموت والده، ووجد "سلطان" نفسه وجها لوجه أمام الشقاء، فما كان منه إلا أن تقبل وتحمل مسئولية أشقائه الأصغر، وإعانة والدته على متطلبات المعيشة دون غضاضة. الغناء في عصر العمالقة بدأ "سلطان" حياته العملية في الطفولة بالطرب، حيث التحق بمسرح "الهواة" بفضل الإعلامي أمين بسيونى دون أن يخضع لاختبارات أداء، وبعمر ال16 ربيعا، قدم أغنية دراويش القاهرة، التي حققت نجاحا كبيرا، وحاز على جائزة الشباب وقتها، فكانت بمثابة انطلاقة في طريق شهرته، ولكن مسيرة "سلطان" كمطرب لم تدم طويلا في ظل وجود عمالقة على الساحة الغنائية في مصر آنذاك مثل: عبد الحليم حافظ، فريد الأطرش، نجاة، ومحرم فؤاد. انحسار الحكاية المطولة في الوقت الذي كان للمونولوج وهجة البراق في الأفلام والعروض المسرحية، على يد نجوم مثل: شكوكو، ثريا حلمي، إسماعيل ياسين، وغيرهم، بدأت النكتة تزاحم لخلق مكان لها في قلوب المشاهدين، ويعتبر "سلطان" أحد أهم هؤلاء الذي أخذوا على عاتقهم وضع النكتة في جملة مفيدة على الساحة الفنية.. ونجح. تعد الفترة ما بين عامى 1967 إلى عام 1973، العصر الذهبى لحمادة سلطان، الذي جنى فيه ثمار جهوده في تعريف المشاهدين على النكتة القصيرة كفن قائم بحد ذاته، وسحب –في سنوات قليلة- البساط من تحت أرجل الحدوتة المطولة أو ما يعرف بالمونولوج على الطريقة القديمة، حيث وجد المشاهدون ضالتهم في النكتة التي أصبحت تتناسب بشكل أكبر مع وتيرة الحياة الآخذة في الإسراع حينها. تفتحت أبوب الشهرة على مصراعيها، أمام ابن أسوان وأطلق عليه صديقه الفنان سلطان الجزار -مقدم برنامج ساعة لقلبك الذي كان يبث على الإذاعة المصرية آنذاك- اسم فنى "حمادة سلطان"، ليكتب لهذا الاسم أن يسطر في صفحات كتاب تاريخ أهم كوميديانات مصر. تزايد إقبال المشاهدين على عروض "حمادة سلطان" في عصر ما قبل الإنترنت والقنوات الفضائية، ما جعله ضيفا دائما على خشبة المسرح في حفلات أضواء المدينة، مع محمد الكحلاوي، فايزة أحمد، وعبد الغنى السيد، وغيرهم من النجوم. فن نظيف لم يكن انتزاع الضحكات من فوق الشفاه هو الهدف الأوحد لحمادة سلطان من نكاته وقفشاته، بل كان فنانا دائم البحث وراء هدف اسمي، متمثلا في استخدام النكتة والمنولوج لتقويم سلوك في المجتمع، أو انتقاد أوضاع ملتبسة، أو تلخيص درس من دروس الحياة، وذلك في إطار من الاحترام والرقى فمن بين آلاف النكات التي أطلقها "سلطان" لم يلجأ في أي من مراحل مشواره الفنى إلى استخدام ألفاظ خارجة أو خادشة للحياء أو قدرا من الإيحاءات غير الأخلاقية مثل: «آبلة فاهيتا وباسم يوسف وأحمد أدم ومحمد سعد»، ليحتفظ بحب ويحظى بمتابعة ملايين من الأطفال. "فن الحياة" "الحياة فن.. والمونولوج فن الحياة"، هكذا عبر "سلطان" خلال استضافته في أحد البرامج الحوارية عن مفهومه الفلسفى حول الحياة، الفن، والمونولوج، رابطا أسباب بقاء واستمرارية الأعمال الفنية بمبدأ الصدق والإخلاص، وما دون ذلك يندثر ويتحلل مع الأيام وينسى الناس أصحابه، غير مأسوف عليهم. دافع "سلطان" عن قدر وقيمة المونولوج في إصلاح البشر وإرشاد الناس، مؤكدا أنه أحد أنواع الغناء ولكن تعنى موضوعاته بشكل أساسى بقضايا المجتمع دون التقيد بشرطية إضحاكة للناس، فيقول "سلطان" في أحد منولوجاته:"راعى ضميرك وأبعد شيطانك، إن كنت يعنى بأدين طويلة، حصن حياتك بالاستقامة، لا تروح كرامتك بين يوم وليلة". شغلت قضية الوطن، مساحة وافرة في فن المونولوج لدى "سلطان" وظلت مصر حاضرة في فنه سواء خلال أعوام النكسة الحالكة أو بعد انتصارات أكتوبر 1973، فيقول في أحد مونولوجاته الشهيرة والمحببة إلى الجمهور:" من يوم ما وعيت على الدنيا، وأنا أسمع إن الدينا لها أم واسمها مصر... مخلصة في الود أصيلة، إن تقلت بيها الشيلة، تصبر وتشيل ماهى مصر... جوها بالحب معطر ميه نيلها ولا السكر، وجمال الدنيا في مصر". النكتة.. مرآة الشارع "مرة قنبلة وقعت على قهوة عملت بن"، إحدى أشهر نكات سلطان، وتناقلتها الأجيال المتعاقبة لعقود، والمتأمل في تكوينها يدرك أن سبب بقائها كأمن بين كلماتها القليلة، فهى تتمتع ب"القفشة المصرية، القصيرة، الذكية، القريبة والعاكسة لحياه الناس العادية". امتاز "سلطان" بسرعة إلقاء النكات، حيث أجرت إحدى الصحف الأجنبية أبحاثا أثبتت قدرته على إلقاء نحو 700 نكتة خلال فترة لا تتعدى ال20 دقيقة، ما يعكس تمتعه بمهارات عقلية عظيمة وذكاء حاد، ليس فقط يمكنه من حفظ آلاف النكت وإطلاقها، بل وأيضا تأليفها وأرتجالها، كل ذلك كان مغلفا بخفة ظل وحضور براق على المسرح. يقول "سلطان" في أحد تصريحاته الصحفية أن النكتة ما هي إلا إنعكاس الواقع وفلتات الشارع.. وإنها سلاح ذو حدين من الممكن استخدامه لنشر إشاعة أو لنشر فضيلة، ويصر على أن فن النكتة خلق ليوظف في إرشاد الناس، مؤكدا أن العديد من النكات التي قام بتأليفها وليدة المواقف الحياتية التي يمر بها سواء في الشارع أو في إطار أسرته وعائلته، ومنهم: "واحد بلديتنا سافر باريس بيعاكس واحدة هناك قالتله سوفايج.. قالها لا سوهاج"، و"واحد بلديتنا لقا سمك بكالاه متعلق في محل، سال البياع بيتعمل ازاى الراجل كتبله الوصفة في ورقة، اشترى السمك ومشى قام كلب خطف منه السمكة..قاله الورقة معايا مش هتعرف تعملها". قبل ثورة 25 يناير بسنوات قليلة، شارك "سلطان" المواطنين شكواهم من تفشى الفساد فكان لسانهم لسرد ماتعانى منه البلاد من إنحدار أخلاقى وسلوكي، كنتيجة حتمية لفساد النظام الحاكم وضيق المعايش على المواطنين، وأطلق العديد من النكات الجريئة التي رسمت ملامح ذلك العصر، فيقول: "واحد اخترع جهاز للكشف عن اللصوص والبلطجية، راحوا بيه الصين، فاكتشفوا 500 مليون حرامي، وفى الهند اكتشفوا بيه مليون بلطجي، وفى أمريكا لقوا 100 مليون حرامي، ولما جم بيه مصر، الجهاز اتسرق!"، "واحد بيغنى أدام لجنة فبيقول واحد حرامى.. اتنين حرامية تلاثة حرامة قالوا له طيب لو عايزين نقول 10 حرامية قالهم نقول "بلادى بلادى بلادي"، و"واحد مصرى وواحد بريطانى بيتخانقوا مين عندهم ديمقراطية أكتر في بلدهم، فالبريطانى بيقول للمصرى أنا ممكن أقف في ميدان بيكاديلى وأقول يسقط براون، رد المصرى أيه يعنى مأنا ممكن أقف في ميدان العتبة وأقول يسقط براون برضه". الفقر والموت يغيبان "سلطان" تبدلت الظروف والأحوال بحمادة سلطان، وعادت الحياة لسيرتها الأولى معه، بعد أن سلم الراية لنجله الفنان "أحمد شو"، فخفت نجمه، وتوارى عن الأنظار، ونفد ماجمعه من مال خلال مسيرته الفنية الطويلة. تعرض "سلطان" لحادث سير أدى إلى كسر شديد في قدمه اليمني، وتسبب في إصابته بنقص حاد في الصفائح الدموية بجسده، ولم يستطع سلطان وعائلته تدبير نفقات العلاج، فغيبه الموت أواخر شهر مارس من عام 2015، لتزيل بذلك الفاقة والحاجة ابتسامة من أضحك ملايين من البشر لعشرات السنين، وتضع نهاية مأساوية لصاروخ الكوميديا والنكتة حمادة سلطان.