كان شديد القسوة بلا موهبة غريب الأطوار سيئ الظن بالناس اهتم بالخيل واستغنى عن الخبراء الفرنسيين وكان يقضى لياليه مع الغلمان أغلق المدارس وأعاد البعثات الخارجية وانتشرت الجاسوسية فى عهده على غير العادة، سقط عرش الخديو عباس الأول بسهولة بالغة كورقة شجر واجهها الخريف بقسوة فلم يلحظها أحد .. عيوب ونواقص ميزت عهده وجعلت سنوات حكمه الخمس أقل كثيراً من طموحات المصريين فقد قضى حياته فى فراشه على يد اثنين من الغلمان قضيا معه ليلة فاسقة ثم قتلاه وهربا إلى الخارج كأنهما يقضيان على رجل عادى.. لا رجل يحكم قلب الأمة العربية النابض.. ولد عباس حلمى الأول فى جدة عام 1813 ثم انتقل فى وقت لاحق إلى القاهرة، بذل جده محمد على شيئا من العناية فى تعليمه كيف تكون ولاية الحكم إذ كان أكبر أفراد الأسرة العلوية سنًا وبالتالى أحقهم بولاية الحكم بعد عمه إبراهيم باشا، فعهد إليه بالمناصب الإدارية والحربية. فتقلد من المناصب الإدارية منصب مدير الغربية، ثم منصب الكتخدائية التى كانت بمنزلة رئاسة النظّار.. ولكنه لم يكن فى إدارته مثالًا للحاكم البار بل كان له من التصرفات ما ينم عن القسوة وكان يبلغ جده نبأ بعض هذه التصرفات فينهاه عنها ويحذره من عواقبها ولكن طبيعته كانت تتغلب على نصائح جده وأوامره. ولقد اشترك عباس الأول مع عمه إبراهيم باشا فى الحرب فى الشام، وقاد فيها أحد الفيالق، ولكنه لم يتميز فيها بعمل يدل على البطولة أو الكفاءة الممتازة.. وبالتالى لم تكن له ميزة تلفت النظر، سوى أنه حفيد رجل أسس ملكًا كبيرًا فصار إليه هذا الملك، دون أن تؤول إليه مواهب مؤسسة، فكان شأنه شأن الوارث لتركة ضخمة جمعها مورثه بكفاءته وحسن تدبيره وتركها لمن هو خال من المواهب والمزايا. وكان عمه إبراهيم باشا لا يرضيه منه سلوكه وميله إلى القسوة، حتى اضطره إلى الهجرة للحجاز وبقى هناك إلى أن داهم الموت عمه إبراهيم باشا. عباس .. غريب الأطوار بعد وفاة عمه تولى عباس الأول الحكم لمدة خمس سنوات ونصف السنة، وكان يبدو خلالها غريب الأطوار، شاذًا فى حياته، كثير التطير، فيه ميل إلى القسوة، سيئ الظن بالناس، ولهذا كان كثيراً ما يأوى إلى العزلة، ويحتجب بين جدران قصوره. وكان يتخير لبنائها الجهات الموغلة فى الصحراء أو البعيدة عن الأنس، ففيما عدا سراى الخرنفش وسراى الحلمية بالقاهرة، بنى قصرًا بصحراء الريدانية التى تحولت إلى العباسية أحد أشهر أحياء القاهرة والتى سميت من ذلك الحين باسمه، وكانت فى ذلك الوقت فى جوف الصحراء، وقد شاهد المسيو فرديناند ديليسبس هذا القصر سنة 1855 فراعته ضخامته وذكر أن نوافذه بلغت 2000 نافذة، وهذا وحده يعطينا فكرة عن عظمة القصر واتساعه، فكأنه بنى لنفسه مدينة فى الصحراء، كما بنى قصرًا آخر نائيًا فى الدار البيضاء الواقعة بالجبل على طريق السويس وما تزال أثاره باقية إلى اليوم. وقصراً بالعطف كما بنى قصرًا فى بنها على ضفاف النيل بعيدا عن المدينة، وهو القصر الذى قتل فيه. و قد أساء الظن بأفراد أسرته وبكثير من رجالات محمد على باشا وإبراهيم باشا وخيل له الوهم أنهم يتآمرون عليه فأساء معاملتهم فخشوا على حياتهم فرحل بعضهم إلى الأستانة والبعض إلى أوروبا خوفًا من بطشه، واشتد العداء بين الفريقين طول مدة حكمه. وبلغ به حقده على من يستهدفون غضبه أنه حاول قتل عمته «الأميرة نازلى هانم»، واشتدت العداوة بينهما حتى هاجرت إلى الأستانة هى الأخرى خوفًا من بطشه. وقد سعى عباس الأول إلى تغيير نظام وراثة العرش ليجعل ابنه «إبراهيم إلهامى باشا» خليفته فى الحكم بدلًا من عمه محمد سعيد باشا ولكنه لم يفلح فى مسعاه ونقم على عمه سعيد الذى كان بحكم سنه وليًا للعهد واتهمه بالتآمر عليه، واشتدت بينهما العداوة حتى اضطره أن يلزم الإسكندرية وأقام هناك بسراى القبارى. عصر الجاسوسية انتشرت الجاسوسية فى عهد عباس الأول انتشارًا مخيفًا، فصار الرجل لا يأمن على نفسه من صاحبه وصديقه، وكان من يغضب عليه ينفيه إلى السودان ويصادر أملاكه. وكان نفى المغضوب عليهم إلى أقصى السودان من الأمور المألوفة فى ذلك العصر. وكان مولعًا بركوب الخيل والهجن، ويقطع بها المسافات البعيدة فى الصحراء، وله ولع شديد باقتناء الجياد الكريمة حيث كان يجلبها من مختلف البلاد ويعنى بتربيتها عناية كبرى، وبنى لها الاسطبلات الضخمة وأنفق عليها بسخاء شأنه شأن هواة الخيل. واختلف عهد عباس الأول عن عصر محمد علي، فحركة النهضة والتقدم والنشاط التى امتاز بها عصر محمد على قد تراجعت فى عهد عباس، إضافة إلى أن محمد على كان يستعين بذوى العلم والخبرة من الفرنسيين فى معظم مشاريع الإصلاح لكن عباس قام بإقصاء معظم هؤلاء الخبراء واستغنى عنهم، وقد تضاءل النفوذ الفرنسى فى عهده ولم يعد إلى الظهور إلا فى عهد محمد سعيد باشا. وعلى العكس من انحسار النفوذ الفرنسي، فقد بدأ النفوذ الإنجليزى فى عهده على يد القنصل البريطانى فى مصر «مستر مرى»، حيث كان له تأثير كبير عليه وله عنده كلمة مسموعة، ولا يعرف السبب الحقيقى لهذه المنزلة سوى أنه نتيجة المصادفة، إلا إنه قيل إنه كان يستعين به فى السعى لدى الحكومة العثمانية بواسطة سفير إنجلترا لتغيير نظام وراثته العرش كى يؤول إلى ابنه «إلهامي»، وفى رواية أخرى إنه كان يستعين به وبالحكومة الإنجليزية ليمنع تدخل الدولة العثمانية فى شئون مصر، إذ كانت تريد تطبيق القانون الأساسى المعروف بالتنظيمات على مصر. كره المصريون عباس الأول وعصره لما شاع فيه من جهل وخرافة نبعت فى الأساس من شخصيته الغامضة وسلوكه الغريب.. فقد أغلق المدارس وأعاد البعثات من الخارج ومنع المخصصات المالية التى كانت تصرف لأفراد أسرة محمد علي.. ووسط إحساسه بالتآمر عليه عهد إلى مجموعة من أتباعه بالتجسس على الأمراء والأعيان وأفراد شعب مصر ليتعرف على أخبارهم فى كل وقت. فى نفس الوقت سعى الأمراء أيضا وراء عباس الأول بالجواسيس ليعرفوا حقيقة هذا الرجل الغامض وماذا يفعل فى قصوره النائية.. وكان على رأس هؤلاء عمته الأميرة نازلى التى كانت تأتيها الأخبار عن الخديو من جواسيسها الذين زرعتهم فى قصوره حتى جاءتها المفاجأة التى كانت تنتظرها والتى كانت فاتحة الطريق لاغتيال الخديو والتخلص من شروره. قتيل الغلمان فقد كان اتجاه الخديو عباس الأول لبناء قصوره فى الأماكن النائية راجع إلى شغفه بالغلمان.. حيث يقوم بشراء العديد منهم ويمضى لياليه فى فسقه بهم.. هنا اختارت الأميرة نازلى اثنين من المماليك واتفقت معهما على قتل الخديو مقابل مبلغ كبير من المال دفعت منه جزءاً لهما والباقى بعد عودتهما إليها بخبر وفاته. سافر المملوكان وعرضا نفسيهما فى سوق العبيد حيث ينتشر وكلاء الخديو .. وبالفعل اشتراهما أحد الوكلاء ودخلا القصر وظلا فى محاولات مضنية للتقرب من الخديو الذى كان لا يأمن لأحد إلا بجهد بالغ.. لكن أمام دلال الغلامين عليه جعلهما أهل ثقة فأخذهما معه إلى قصر بنها وبعد سهرة آثمة طلب منهما تركه لينام على ألا يتركا الباب.. وهو ما فعلاه ولكن بعد نومه انقضا عليه وقتلاه. خرج الغلامان من غرفة الخديو وأغلقا عليه الباب وأسرعا إلى إسطبل الخيل وطلبا تجهيز جوادين سريعين لإحضار بعض الأغراض الشخصية للخديو من قصر العباسية.. استجاب الجنود ودفعا إليهما بالجوادين فانطلقا يسابقان الريح إلى الإسكندرية حيث اختبآ حتى استطاعا ركوب إحدى السفن إلى اسطنبول حيث استقبلتهما الأميرة نازلى بالأفراح والسرور. المراجع : أمراء وأسرة محمد على- ليالى فاروق - مصطفى أمين