جموع المصريين قرأوا فى كتب التاريخ عن موقعة "الريدانية"، التى وقعت أحداثها عام 1517 بين جيش المماليك الذين كانوا يحكمون مصر منذ العام 1260، حتى تمكن السلطان العثمانى سليم الأول من فتح مصر وهزيمة المماليك بقيادة السلطان طومان باى، لكن الذى قد لا يعلمه الكثيرون أن الريدانية هذه هى نفسها منطقة العباسية، التى سميت بهذا الاسم نسبة إلى "ريدان الصقلى" أحد أفراد حاشية الخليفة الفاطمى العزيز بالله، الذى يعد أول من أصلح صحراءها وأنشأ فيها بستانًا كبيرًا، فسميت المنطقة التى كانت حتى ذاك الحين مجرد صحراء جرداء باسم "الريدانية" نسبة إلى ريدان هذا، وبعد هزيمة المماليك فيها ودخول العثمانيين منها للقاهرة، أهملت هذه المنطقة، ثم تغير اسمها إلى"الحصوة"، حتى أعاد اكتشافها "عباس الأول" ثالث حكام الأسرة العلوية. عباس حلمى الأول، هو ابن "أحمد طوسون" ابن محمد على باشا، مؤسس الأسرة العلوية، وتولى حكم مصر بعد وفاة عمه إبراهيم باشا فى 14 نوفمبر عام 1848، وكان مقر إقامته بالقلعة، وكثيرًا ما كان ينزل من القلعة إلى صحراء الريدانية، فأعجب بتلك المنطقة، وأمر بتشييد قصر له فيها، وحكى المهندس فرديناند ديليسبس عن هذا القصر فقال: إن نوافذه بلغت ألفى نافذة، وقال عن هذا القصر إنه مثل مدينة فى الصحراء، ثم أمر ببناء ثكنات الجيش فى تلك المنطقة، وفى عام 1851 أصدر عباس الأول إرادة سنية تقضى بأن تسمى هذه المنطقة باسم "العباسية". كانت السراى، التى بناها عباس تعرف باسم "الخمس سرايات"، وأقيمت حولها القشلاقات فوق ربوة عالية لا تصل إليها مياه الفيضان، ثم أقام عددًا من المدارس العسكرية، وشق طريقًا ممهدًا بين العباسية والقاهرة. وبعد مقتل عباس باشا فى 14 يوليو سنة 1854 فى بنها، تولى من بعده محمد سعيد باشا (الابن الرابع لمحمد على باشا)، فتوسع فى إنشاء ثكنات الجيش بالحى الجديد، وأقام المدرسة التجهيزية عام 1863 التى نقلت عام 1868 (فى عهد الخديو إسماعيل) إلى درب الجماميز وعرفت باسم "المدرسة الخديوية". وبعد وفاة سعيد باشا، تولى حكم مصر إسماعيل ابن إبراهيم باشا فى 18 يناير 1863، وهو أول من حاز لقب "خديو"، وأدرك موقع حى العباسية فى تسكين الجيش، لقربها من الصحراء حيث يتمكن الجنود من التدريب، وأنشأ بها مدرسة البيادة (المشاة) عام 1864، وكان عدد تلاميذها 490 تلميذًا، ثم مدرسة السوارى (الفرسان) عام 1865، ثم مدرسة الطوبجية (المدفعية) ثم الهندسة الحربية، ثم مدرسة أركان الحرب، فمدرسة الرى والعمارة عام 1866 بسراى الزعفران، وهو الذى أنشأ قصر الزعفران، ويسمى بهذا الاسم نسبة إلى المنطقة التى كان يكثر بها زراعة نبات الزعفران الطيب الرائحة. وفى عام 1865 مد الخديو إسماعيل السكك الحديدية من القاهرة إلى العباسية، ثم من العباسية إلى منطقة القبة (خط المرج فيما بعد)، وأنشأ ميدانًا لمسابقات الخيول بالعباسية، وكانت السباقات تجرى فيه وسط حشد كبير، وتنشر الوقائع أخبارها، وتحولت العباسية إلى ميدان للرماية والاحتفالات الشعبية. ويرتبط حى العباسية بالثورة العرابية، التى وقعت أحداثها عام 1881 فى عهد الخديو توفيق ابن إسماعيل، ففى 18 فبراير 1879 اجتمع 600 ضابط ثم خرجوا فى مظاهرة عسكرية إلى شوارع القاهرة، ثم توجهوا إلى مقر وزارة المالية فى قصر إسماعيل المفتش، وأمسكوا بنوبار باشا، رئيس النظار (الوزراء) والوزير الأجنبى "ويلسون"، وأوسعوهم ضربًا، احتجاجًا على التدخل الأجنبى فى شئون البلاد، وفى اليوم التالى سقطت وزارة نوبار، أول رئيس للوزراء فى مصر الحديثة. وبعد احتلال الإنجليز لمصر، استولت سلطات الاحتلال على العباسية، وحولتها إلى ثكنة عسكرية بريطانية، وانتشرت قشلاقات الجيش الإنجليزى بالعباسية، وأقاموا بها نادى الجيش البريطانى. تحول حى العباسية خلال الاحتلال الإنجليزى إلى مستعمرة إنجليزية، وأطلق الإنجليز أسماء أجنبية على شوارع الحى، وهذه الأسماء تم استبدالها بعد ثورة يوليو 1952. ويرتبط بحى العباسية مستشفى الأمراض العقلية، الذى أصبح مرادفًا للحى، ويرجع تاريخه إلى عهد الخديو إسماعيل، حيث أنشأت هذه الاستبالية فى جزء من السراى (الصفراء) التى أقامها الخديو إسماعيل، ثم احترقت هذه السراى، وأعاد بناءها الخديو توفيق، وعرفت باسم "سراى المجاذيب"، ولأن تلك المنطقة كانت تتميز بهواء صحى نقى، فقد توالى بناء المستشفيات بها، فأمام مستشفى الأمراض العقلية أقيم مستشفى الحميات، وجنوبًا أقيم المستشفى الإيطالى (أمبرتو الأول)، ثم المستشفى اليونانى بجواره، ثم المستشفى الإسرائيلى فى غمرة، ثم المستشفى القبطى، ثم المستشفى الفرنساوى، الذى أصبح مستشفى مصر للطيران. فى منطقة السرايات، أقيمت مدرسة الصناعة والزخرفة، التى أصبحت بعد ذلك كلية الهندسة، وبجوارها كثرت البنايات والعمارات الكبيرة التى تهافت عليها الأثرياء لسكنها، وظهر فى تلك الفترة رجل خير من أصل فارسى، هو "عبد الرحيم الدمرداش باشا" الذى تبرع وزوجته من مالهم لبناء مستشفى خيرى عام 1928 مازال يحمل اسمه، تطور فيما بعد ليصبح كلية طب عام 1947، وأمام مستشفى الدمرداش يوجد قبر أحمد ماهر باشا، رئيس وزراء مصر الذى اغتيل فى 24 فبراير 1945، وأيضًا قبر رئيس الوزراء محمود فهمى النقراشى، الذى اغتيل فى 28 ديسمبر 1948. بعد ثورة يوليو 1952 احتفظت الثورة بمقار الجيش الإنجليزى، وخصصتها لوزارة الحربية (الدفاع) حيث يوجد فى دائرة العباسية مقر وزارة الدفاع، ومبنى الكلية الفنية، والمعهد الفنى للقوات المسلحة، وجميع الهيئات والإدارات والنوادى التابعة للجيش، واختار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الإقامة بها فى منزل كان يخص ناظر المدرسة العسكرية، ثم باتت مقصدًا لآلاف الأسر من كل الطبقات، استوطنوا هذا الحى، الذى تصدر الصحف ونشرات الأخبار فى تلك الأيام.