لأكثر من عشرين عاما تحملها فوق ظهرها، ذهابا وإيابا، صعودا وهبوطا أربعة طوابق، حتى أصبحت شابة جميلة روحا وشكلا وعقلا.. شابة محمولة فوق ظهر أمها الرائعة.. لكن الروعة لوصف تلك الأم شىء يبخس حقها، صلابتها تشعر كل من يعرفها عن قرب ويعرف قصتها ورحلة كفاحها بالضآلة أمامها. شروق -الشابة الجميلة التى ولدت بخطأ طبى كلفها إعاقة لازمتها طول حياتها وهى إصابتها بالشلل الدماغى، فأصبحت عاجزة عن الكلام والحركة، لكنها لم تكن عاجزة أبدا عن الإحساس المرهف والتفكير الناضج المدهش. شروق الفتاة الجامعية التى حصلت هذا العام على ليسانس آداب -قسم اجتماع- جامعة عين شمس. هل تدركون أو على الأقل لديكم قدرة التخيل لهذه الرحلة، التى قاربت ربع القرن، الأم تناضل لتكبر الفتاة يوما بعد يوم، ثم تستمر الأم فى مواصلة النضال لتحصل ابنتها على أبسط حقوقها البديهية، وتحول نضالها إلى محاربة طواحين الهواء، وكلما هزمت الرياح وشعرت بلحظة انتصار، إلا وكانت هناك أعاصير إحباط وظلم تنغص عليها فرحة الانتصار.. الانتصار بالحصول على أتفه الحقوق، مثلما حاربت الأم من أجل أن تمكن ابنتها، ذات الاحتياجات الخاصة، من حق التعليم الجامعى، إيمانا منها بأن ابنتها -مشروع حياتها- قادرة على إتمام كل مراحل التعليم، إثباتا بأن إعاقة الفتاة ليست عقلية، وأن عدم حركتها وعدم كلامها لم يكونا أبدا عائقين عن العلم. تفاصيل الرحلة والمشقة والصعود والنزول اليومى يحتاج ملحمة تحكى عنها، ولكنه الجزء الأهون فى حياة كل من الأم وشروق، ببساطة لأن الحلم كان أكبر، حلمهما بأن النتيجة ستكون خير دليل عملى على مدى التحدى بالإعاقة وإثبات أن جمهورية ذوى الاحتياجات الكائنة فى نسيج هذا المجتمع، الذين يبلغ عددهم ما لا يقل عن 12 مليون معاق لهم حقوق -كفانا ظلما بتجاهلها وإغفالها. أم شروق مثل أمهات كثيرات يشعرن بالوجع ويتمسكن بالحلم فى العدل والحق، أم تبحث عن حق ابنها الشهيد الذى مات من أجل الوطن، أم تتحسس الطريق نحو ذرة أمل فى علاج ابنها المصاب فى الثورة، أم عادية تبحث عن حق أولادها فى تعليم آدمى، وأم تبحث عن حق وظيفة ابنها، وأم تناضل من أجل حرية ابنها فى المعتقلات العسكرية دون وجه حق. لم يتوقف نضال رحلتها يوما، أحداث مرهقة ومضنية متلاحقة فى حياتها، لكنها لا تملك رفاهية الشكوى أو الانسحاب، لا خيار لديها سوى التغلب والمقاومة والاستمرار، هكذا خُلق بعض الناس للتحديات. يأتينى صوتها فرحا مهللا: عاوزين نحتفل، شروق حصلت على الليسانس، وتأخذنا دوامة الحياة، وننسى أن نحتفل بك يا شروق.. سامحينا. أسابيع ويأتينى صوت «أم شروق» الموظفة المحترمة.. يائسا موجوعا من شدة الظلم.. تقول لى: «هنفضل لغاية إمتى نعافر عشان أبسط البسيط، ذهبت إلى الفندق الذى تعمل به شروق بنسبة 5% معاقين، وقدمت لهم شهادة تخرجها وحصولها على مؤهل جامعى عالى، وهو ما يعطيها الحق فى الارتفاع درجة ما فى وظيفتها، وزيادة راتبها ما لا يقل عن مئتى جنيه (هى الأحق بهم)، على الأقل لشعورها بأن سنوات الدراسة ورحلة التعليم ومحاولتها لإثبات قدراتها -رغم إعاقتها- لم تضع هباء، وأن هناك تقديرا ما، تخيلى بعد كل هذا يقولون لى: لن تغير شهادتها الجامعية شيئا من وضعها الوظيفى أو درجتها أو راتبها.. وده اللى عندنا!! تواصل الأم الحياة بسلاح التجاوز ومحاولة التغلب وتعيش.. ثم يأتينى صوتها مرة أخرى غاضبا وثائرا، وقصة جديدة: «انت عارفة إن الشقة باسم شروق، رحت أقدم على تليفون أرضى، شروق ذهبت معى على كرسيها، ومعنا كل الأوراق»، إيصالات النور، عقد الشقة، الطلب، وإثبات أن لها وظيفة، كل شىء معنا.. نظرت لى الموظفة بقسوة، ثم نظرت إلى شروق الجالسة على كرسيها، المدركة لكل كلمة وإيماءة.. ثم قالت الموظفة: «إزاى يعنى أعمل لها تليفون وهى كده، يعنى هى هتتكلم فى التليفون.. ورفضت الطلب». وانفجرت الأم وهى تحدثنى غاضبة: طب وآخرتها.. هنفضل لغاية إمتى بنحارب فى طواحين الهوا، ده مش بس ظلم قوانين، ولا قلة ثقافة ووعى، ده غباء إنسانى، المشكلة مش فى التليفون.. المشكلة إن بنتى منهارة من نظرة الست لها، من جملتها، من تحديها وحكمها على البنت أنها لا تصلح لأى شىء حتى إن كان حقها. ظلت تتحدث «أم شروق» بغضب، وقفت أمامه صامتة، وصوت حالى يقول: «فعلا.. وآخرتها إيه.. هو مافيش فايدة ولّا إيه، وصوت آخر يهاجمنى ويخجل أن ينطق بأى جملة تفاؤل أوجهها للأم، أو بطريقة من يده فى الماء الفاتر.. «بكرة أحلى». قلت لها: «طبعا من حقك تغضبى وتقرفى وتزهقى كمان.. ده انت كأنك بتنفخى فى قربة مقطوعة.. يلعن أبو القسوة والغباء».. وكعادتها الرقيقة.. قالت لى فى آخر المكالمة: آسفة إنى انفعلت وكنت عصبية.. انت ذنبك إيه؟ بالفعل أشعر أننى مذنبة.. كلما سقط شهيد شعرت بالذنب، كلما أصيب شاب وشاهدته صورة أو قرأت عنه معلومة شعرت بالذنب، كلما شاهدت علاء عبد الفتاح وتذكرت ابنه الرضيع خالد.. شعرت بالذنب، كلما قرأت مقالا عن أم شهيد.. شعرت بالذنب، عندما سمعت عن تسمم شباب الاعتصام شعرت بالذنب، حتى فى لحظة كتابة هذا المقال ومهاجمة شباب مجلس الوزراء بضرب الطوب من أعلى، ووقوع مصابين بجروح وكسور وهم غير قادرين على ترك مكان الاعتصام أو الهروب أو حق الرد على الطوب بالطوب.. يشعرنى بالذنب.. ذنب قلة الحيلة.. اللهم اكفنى شرها بقى!